شبهة رؤية الله يوم القيامة،.
يزعم بعض المسلمين أنه من المستحيل أن نرىٰ الله يوم القيامة،. بناءً على فلسفة كلامية ومنطقية فيها ما فيها من البعد عن الدين،. ثم ذهبوا يستدلون على قناعتهم هذه بالآيات والأحاديث،.
أما الأحاديث التي تثبت رؤيتنا لله يوم القيامة فهي كثيرة وفيرة، ورغم أنهم لا يعترفون بها،. ولكننا سنذكرها، ليست لهم، بل للمؤمنين بالأحاديث، ليزدادوا إيماناً بوعد ربهم لهم،. فسنذكرها بين طيات هذا المقال، ولكن سيكون التركيز أكثر على الإثبات من القُــرآن أننا سنرى الله يوم القيامة،.
1 ــــــ قالَ اْللّٰه،. ﴿كَلَّاۤ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ یَوۡمَئذࣲ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾ [المطففين 15]،.
الآية بينة واضحة جداً، ولا داعي لردها بالرأي، ومن السياق يتبين أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم، وأنهم بعكس المكذبين، ليسوا محجوبون،. وقد تكرر إثبات النظر مرتين،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَیۡلࣱ یَوۡمَئذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ٱلَّذِینَ یُكَذِّبُونَ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ وَمَا یُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِیمٍ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِ ءَایَـٰتُنَا قَالَ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ كَلَّا بَلۡ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ كَلَّاۤ إِنَّهُمۡ ((عَن رَّبِّهِمۡ یَوۡمَئذࣲ لَّمَحۡجُوبُونَ)) ثُمَّ إِنَّهُمۡ لَصَالُوا۟ ٱلۡجَحِیمِ ثُمَّ یُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِی كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّیِّینَ وَمَاۤ أَدۡرَاكَ مَا عِلِّیُّونَ كِتَـٰبࣱ مَّرۡقُومࣱ یَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِیمٍ عَلَى ٱلۡأَرَاۤئكِ ((یَنظُرُونَ)) تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِیمِ یُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِیقࣲ مَّخۡتُومٍ خِتَـٰمُهُ مِسۡكࣱ وَفي ذَ ٰلِكَ فَلۡیَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَـٰفِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسۡنِیمٍ عَیۡنࣰا یَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ إِنَّ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ كَانُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یَضۡحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا۟ بِهِمۡ یَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُوا۟ فَكِهِینَ وَإِذَا رَأَوۡهُمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ لَضَاۤلُّونَ وَمَاۤ أُرۡسِلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ حَـٰفِظِینَ فَٱلۡیَوۡمَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ یَضۡحَكُونَ عَلَى ٱلۡأَرَاۤئكِ ((یَنظُرُونَ)) هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ﴾ [المطففين 10 - 36]،.
قالَ اْللّٰه فيها،. ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِیمٍ عَلَى ٱلۡأَرَاۤئكِ ((یَنظُرُونَ)) تَعۡرِفُ فِي ((وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ)) ٱلنَّعِیمِ﴾،.
السؤال، إلى ماذا ينظرون؟! سيكون ردهم : ليس فيها دليل أنها نظرة للّٰه،. بل هي نظرة عامة وليس لكم أن تخصصوها بأنها نظرة للّٰه،. نقول : بل هي نظرة للّٰه، بدليلٍ من القُــرآن وآياته المتشابهة المثاني،. فالقُـرآن يفسر بعضه بعضاً، والآيات المتشابهة،. تعضد بعضها وتشد المعنى وتقربه،.
قالَ اْللّٰه في سورة القيامة، في سياق متشابه بالتمام مع ذلك السياق الذي في سورة المطففين،. قال،. ﴿((وُجُوهࣱ یَوۡمَئذࣲ نَّاضِرَةٌ)) إِلَىٰ ((رَبِّهَا نَاظِرَةࣱ))﴾ [القيامة 22 - 23]،.
تكلم الله في كلا الآيتين عن ((في وجوههم نضرة)) ((وجوه ناضرة))،. وكلامهما ينظر، ولكنه في سورة القيامة بيَّن أنهم ينظرون إلى ماذا،. قال ((إلى ربها ناظرة))،. فالنظرة العامة التي في المطففين تخصصت في سورة القيامة وتبينت أنها نظرة إلى ربها،.
ومن ادعى أن كلمة ناظرة هنا تعني الانتظار وليس النظر،. نقول فماذا ينتظرون؟! الجواب، ينتظرون ربهم بدليل الآية ﴿إلى ربها ناظرة﴾،. وهذا اعتراف ضمني منهم أنهم سيرونه لاحقاً،. ولا مفر من تحقيق الرؤية هذه إلا بتحريف الكلم عن موضعه بلا دليل مبرر، وبلا شاهد ولا قرينة،. فقال بعضهم تحريفاً أنهم ينتظرون عطاء الله ورحمته! بينما الآية صريحة ﴿إلى ربها﴾ وليس فيها "عطاء" ولا "رحمة" ولكن هذا المهرب الوحيد لكل من سولت له نفسه واتبع هواه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير!
2 ــــــ شهادة الإسلام،. "نشهد أنه لَاْ إِلَهَ إِلاَّ اْللّٰه"،.
الشهادة لساناً هي ما ((تشاهده بعينك)) لأمر قد وقع بحضورك، هنا تكون قد شهدته وشاهدته،. ولهذا يقال ((شاهدُ عيان)) وقد أضيفت كلمة (عيان) لكلمة "شاهد" من باب التوكيد ليس إلا، فالإضافة تثبيت أنه شاهد الحدث (بعينه) فقيل (عيان)، وإلا فالمشاهدة لا تكون إلا بالعين، على اختلاف نعوتها وأفعالها كالإبصار والنظر والرؤية، فكلمة شاهد وحدها "تقتضي" لزاماً المشاهدة المباشرة بالعين،. وشهادة الزور تعني أنك لم تشاهد ما قلته، ثم أدليت بشهادتك كذبا وبهتاناً،. (لم تشاهد وتقول أنك قد شاهدت) كذباً وزوراً، لهذا اسمها "شهادة الزور" أي الكذب،. والنّبي ﷺ جعلها من أكبر الكبائر (أي فوق العقوق والقتل) وذلك لحكمة عظيمة، علمها من علم مكانة الشهادة بالعين، وأنها من أكبر البراهين التي يتخذها الإنسان للعلم والمعرفة والإثبات والتصديق، أو الإيمان بغيب لم يحضره،. فحين تُصدم من خبرٍ ما غاب وعزب عنك،. أول ما تسأل عنه المخبر لتتيقن من الخبر : هل شاهدت ذلك بأم عينك؟! تسأل هذا السؤال لأنك مدركٌ أن الشهادة أعلى دليل تعرفه،. ثم تنظر في بقية الأدلة إن شككت في مصداقية الشاهد،.
وكلمة "الشهادة" تقابلها وتضادها في المعنى هي كلمة "الغيب"،. فالشهادة ما تراه والغيب مالا تراه،. ولا أقول أن الشهادة ما تدركه، فقد تدرك الأمور بحواسك دون رؤية، وهذه لا تسمى شهادة، الشهادة ما تحقق فيها رؤية العين كما سبق بيانه،. وتجد كثيراً ما يذكر الله الغيب والشهادة معاً كنقيضين متقابلين،. كما يذكر السر والجهر كنقيضين،. قالَ اْللّٰه،. ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ((عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ)) هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ﴾ [الحشر 22]،. وقال،. ﴿ذَ ٰلِكَ عَـٰلِمُ ((ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ)) ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾ [السجدة 6]،. ولاحظ التضادات هنا،. قالَ اْللّٰه،. ﴿((عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ)) ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ ((أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ)) وَمَنۡ هُوَ ((مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُ بِٱلنَّهَارِ)) لَهُ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ ((بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِ)) یَحۡفَظُونَهُ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ...﴾ [الرعد 9 - 11]،.
فتبين، أن الشهادة ما شهدته ولم يغب عنك،. وعكسها الغيب، هو مالم تشاهده، فغاب عنك،. يمسى غيب، فالله غيب عنا،. والآخرة غيب عنا،. والملائكة غيب عنا،. لماذا؟ بكل بساطة لأننا لا نشاهد من ذلك شيئاً،.
ــ ولا يوجد معنىً آخر لكلمة (أشهد) ــ
فيكون السؤال الحتمي اللازم الآن : كيف نقول ((نشهد)) أنه لَاْ إِلَهَ إِلاَّ اْللّٰه،. ونحن لم (نشاهد الله) بأعيننا؟! فقد قالَ اْللّٰه،. ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَائكَةُ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡعِلۡمِ قَائمَۢا بِٱلۡقِسۡطِ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [آل عمران 18]،.
نجيب أولاً على هذا السؤال،. ثم ننتقل للسؤال الذي بعده،. وكيف نشهد بأن مُحَمَّداً رَسُوْلُ اْللّٰه ولم نشاهد هذا بأعيننا؟
ــــ الْحَمْد لِلّٰه،. من أول القُرآن، اشترط الله اليقين (واليقين لا يتحصل إلا بالرؤية) على أمرٍ غيب قال الله،. ﴿الم ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـ((ـالْغَيْبِ)) ..... ..... ((وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون)) أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ....﴾،. واليقين معلومٌ أنه لا يكون إلا بعد الرؤية والمشاهدة عياناً،. كما قالَ اْللّٰه،. ﴿وَكَذَٰلِكَ ((نُرِي)) إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ((وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ))﴾ [اﻷنعام 75]،. وقال،. ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ ((لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ))﴾ [التكاثر 5 ــ 7]،. وقال عن المجرمين،. ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا ((أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا)) نَعْمَلْ صَالِحًا ((إِنَّا مُوقِنُونَ)) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا...﴾ [السجدة 12 ــ 13]،. فهم أيقنوا بعد أن رأوا، فكيف نوقن بالآخرة ونحن لم نرى الآخرة بعد؟!
ــــــ أقول بعد الْحَمْد لِلّٰه،... نعم، لقد شاهدنا ربنا على الحقيقة، ورأينا الآخرة رأي العين في وقت ما،. ولكن الله نزع من قلوبنا تذكّر هذا الموقف، فلا نذكر منه شيئاً،. والله على كل شيء قدير،.
قدرة الله ليست فقط في الأمور المادية وفي الخلق والتكوين،. بل حتى في الأمور الحسية والمعنوية،. فمن الأمور التي يقدر الله عليها ولا تخطر ببال أحدٍ، هو تغيِيب جزءٍ معينٍ في نفسك،. كخصلة معينة خلقها الله فيك، يستطيع محوها ونزعها منك متى شاء كيف شاء،. كأن ينسيك مثلاً تذكر آية قد كنت تعرفها وتتلوها،. وقد ينسي اللهُ الرسولَ آيات كانت تُتلى،. قالَ اْللّٰه،. ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ((أَوْ نُنْسِهَا)) نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة 106]
كلنا يعلم أن في الجنة لا يغِلّ فيها أحدٌ على أحد، ولا حقد ولا حسد، ولا كره ولا غضب ولا نصب، وكل فعلٍ شنيع يدخل تحت اسم (الغِل) لا وجود له في الجنة،. لأن هذا الغِل ينزعه الله من صدرك نزعاً، قالَ اْللّٰه،. ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)) إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر 46 ــ 48]
فأنت في الجنة كما أنت في الدنيا، إلا أن خصلةً (نفسية معنوية) أزيلت منك، فلا تحقد، ولا تعرف ما الحقد ولا تعي كيف يكون الحقد،. والعكس صحيح تماماً! كيف؟؟،...
عندما تكون في الدنيا، ثمة أمر نزع منك لا تعرفه الآن ولا تذكُره، ولكن سيعود إليك حين تكون في الآخرة، وهذا الأمر هو تذكر موقفنا بين يدي ربنا حين (أشهَدَنا) على نفسه فشَهِدنا بعد أن شاهدناه بأم أعيننا،. ولكن الله نزع منا هذه الذاكرة، فأنسانا ما شاهدناه بحق،. ولكنه أخبرنا عن هذا الحدث في كتابه،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا)) أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [اﻷعراف 172]،. فنحن نؤمن بذلك ليس لأننا نتذكر ما حصل في ذلك الموقف، إنما لأن الله الحق أخبرنا به،.
فنحن رأينا ربنا وشاهدناه وعرفناه،. فشهدنا كلنا أنه ربنا،. ولكن حين أُرسلنا للدنيا، نزع منا هذه الذاكرة وذكرنا بها في القرآن،. ولو لم يخبرنا بها لما عرفنا أن هذا الموقف قد حصل فعلاً، حتى نموت ونُبعث،. ففي الآخرة سيعود لنا ما نزع منا،. ونتذكر الموقف هذا تماماً، لهذا قال بعدها، ﴿...أنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾،..
وفي الحديث، تجد أننا نعرف ربنا يوم القيامة، فهو معلوم لدينا، لا نخلط بينه وبين أحدٍ آخر يدعي أنه رب،. بل سنرد عليه أنك لست ربنا،. ونبقى ننتظر ربنا فيأتينا بصورته التي نعرف، فنقول أنت ربنا، فنتبعه،. فنحن نعرفه حقاً، قد شاهدناه قبل ذلك،.
ﻋﻦ ﻋﻄﺎء ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ اﻟﻠﻴﺜﻲ، ﺃﻥ ﺃﺑﺎ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﺃﺧﺒﺮﻩ ﴿ﺃﻥ ﻧﺎﺳﺎ ﻗﺎﻟﻮا ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻫﻞ ﻧﺮﻯ ﺭﺑﻨﺎ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ : ﻫﻞ ﺗﻀﺎﺭﻭﻥ ﻓﻲ ﺭﺅﻳﺔ اﻟﻘﻤﺮ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﺒﺪﺭ، ﻗﺎﻟﻮا ﻻ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻫﻞ ﺗﻀﺎﺭﻭﻥ ﻓﻲ اﻟﺸﻤﺲ ﻟﻴﺲ ﺩﻭﻧﻬﺎ ﺳﺤﺎﺏ، ﻗﺎﻟﻮا ﻻ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺈﻧﻜﻢ ﺗﺮﻭﻧﻪ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺠﻤﻊ اﻟﻠﻪ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺒﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﻓﻠﻴﺘﺒﻌﻪ، ﻓﻴﺘﺒﻊ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺒﺪ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺸﻤﺲ ﻭﻳﺘﺒﻊ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺒﺪ اﻟﻘﻤﺮ اﻟﻘﻤﺮ ﻭﻳﺘﺒﻊ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺒﺪ اﻟﻄﻮاﻏﻴﺖ اﻟﻄﻮاﻏﻴﺖ ﻭﺗﺒﻘﻰ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻨﺎﻓﻘﻮﻫﺎ ((ﻓﻴﺄﺗﻴﻬِﻢُ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓٍ ﻏﻴﺮَ ﺻﻮﺭﺗِﻪِ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺮﻓﻮﻥَ ﻓﻴﻘﻮﻝُ ﺃﻧﺎ ﺭﺑﻜﻢ، ﻓﻴﻘﻮﻟﻮﻥَ ﻧﻌﻮﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻣﻨﻚَ، ﻫﺬا ﻣﻜﺎﻧﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﺄﺗﻴﻨﺎ ﺭﺑﻨﺎ، ﻓﺈﺫا ﺟﺎء ﺭﺑﻨﺎ ﻋﺮﻓﻨﺎﻩ، ﻓﻴﺄﺗﻴﻬﻢ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺮﻓﻮﻥ، ﻓﻴﻘﻮﻝ ﺃﻧﺎ ﺭﺑﻜﻢ، ﻓﻴﻘﻮﻟﻮﻥ ﺃﻧﺖ ﺭﺑﻨﺎ، ﻓﻴﺘﺒﻌﻮﻧﻪ)) ﻭﻳﻀﺮﺏ اﻟﺼﺮاﻁ ﺑﻴﻦ ﻇﻬﺮﻱ ﺟﻬﻨﻢ ﻓﺄﻛﻮﻥ ﺃﻧﺎ ﻭﺃﻣﺘﻲ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﺠﻴﺰ ﻭﻻ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺇﻻ اﻟﺮﺳﻞ ﻭﺩﻋﻮﻯ اﻟﺮﺳﻞ ﻳﻮﻣﺌﺬ اﻟﻠﻬﻢ ﺳﻠﻢ ﺳﻠﻢ، ....﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، ﻭاﻟﻨﺴﺎﺋﻲ.
كما قرأت وفهمت،. فنحن نعرف ربنا، لأننا قد شاهدناه من قبل،. ولكننا لا نتذكر،. وهذا ليس بغريب،. فالله ينزع ذاكرة الكافر الذي رأى النار بعينه، فأيقن بالحساب والعذاب،. فيطلب فرصة أخرى، وعودة للدنيا،. ليعمل صالحا ويؤمن،. والآيات في هذه كثيرة،.
﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا ((أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا)) نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا...﴾ [السجدة 12 ــ 13]،. هنا قد أبصروا وسمعوا، فأيقنوا، وتيقنوا وتأكدوا،..
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا ((أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر 37]
﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ((قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)) كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون 99 ــ 100]
قال ربنا كلا،. فلن يعودوا للدنيا، إنها كلمة هو قائلها، ولكن لنفترض أنهم عادوا،..... لو عادوا، فهل سيؤمنون؟ بعد أن رأوا العذاب وحضروه، وسمعوا شهيق جهنم وهي تفور،. فأبصروا الهلاك،. إن عادوا للدنيا هل سيعملون صالحاً كما قالوا؟!؟
ــــــ لا .
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا ((يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [اﻷنعام 27 ــ 29]
لن يؤمنوا،. رغم أنهم رأوا بل أبصروا وسمعوا وعُذّبوا فعلاً وصدقوا وأيقنوا بكل ما قيل لهم، قالوا،. ﴿..رَبَّنَا ((أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)) فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا ((مُوقِنُونَ))﴾،. إلا أنهم سيعودون لكفرهم وغيهم ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))؟! لماذا؟!
المسألة ليست تجرؤاً على العذاب، ولا قوة تحمل، أو أنهم لا يعنيهم هذا ولا يبالون، هذه ليست عنترة وقدرة جبارة على العذاب،.. ولكن الله سينزع منهم تذكّر تلك اللحظات التي أبصروا فيها وسمعوا فأيقنوا بها في الآخرة،. فلهذا إن ردوا للدنيا،. سيعودون لكفرهم،. لأنهم لا يتذكرون شيئاً من الآخرة بتاتاً!!
مثله تماماً هو ما يحصل لنا الآن،. فنحن في حقيقة الأمر رأينا الله يوم أخذ منا الميثاق "وأشهدنا" على نفسه، بل كان ردنا يومها (بلى شهدنا)،. ولكن الآن نزع منا تذكر ذلك الموقف،. وستعود لنا الذاكرة يوم القيامة،.
لهذا حين نقول ((أشهد)) أنه لَاْ إِلَهَ إِلاَّ اْللّٰه،. فهذه شهادة بالعين، حقيقية، قد حصلت فعلاً وليست مجازاً، وليست كما قيل (من قوة الإيمان أن تؤمن يقيناً وكأنك رأيت)! لا، بل فعلاً رأينا،.
ثم بعد إيماننا بربنا وتصديقنا لكتابه، علينا أن نؤمن بكل ما قاله من غيبٍ أشدُ إيماناً من رأي العين،. فيكفي أن يقول الله كذا فتؤمن وتشهد به ولو لم تشاهد بأم عينك،. ولو كان غيباً،. فقول الله أصدق من مشهدٍ رأيته بعينك،. ومن جملة ما أخبرنا الله به، الرسل والكتب والملائكة والآخرة والقدر،. وغيرها،.
ــــــــ ألم ترَ؟؟! كثيراً ما تجد الله يسأل ألم ترَ؟ أولم يروا؟! أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟! وغيرها حين يسأل اللّه فيقول:
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ..﴾
﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ..﴾
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ..﴾
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ..﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا..﴾
فلا تقل (واللّه ما رأيت..)! بل صدقه، لأن هذا القول أثبت مما قد تراه بعينك،. أنت تعلم أن كلام اللّه هو الحق،. ﴿..وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ..﴾،. ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾،. ﴿..وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾،. ﴿..وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾،.
قل بلىٰ رأيت،. أين رأيت؟؟ ((قال اللّه))،. يكفي هذا،. كلامه أحق وأثبت مما تراه عيني،. بل أكذب ما تراه عيني ولو رأت ما رأت،. وأصدق كلام ربي ولو لم أر بعيني!!وصدَق الله؛ صدق رسُول اللّه ﷺ؛ كذَبَت أعيُنُنا!
سنأتي نحن (أمة محمد ﷺ) يوم القيامة ونشهد علىٰ قوم نوح ﷺ ولو لم نرَهم بأعيننا،..
ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺻﺎﻟﺢ، ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ :
ﻳﺠﺎء بنوح ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻓﻴﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﻫﻞ ﺑﻠﻐﺖ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﻧﻌﻢ ﻳﺎ ﺭﺏ، ﻓﺘﺴﺄﻝ ﺃﻣﺘﻪ ﻫﻞ ﺑﻠﻐﻜﻢ ﻓﻴﻘﻮﻟﻮﻥ ﻣﺎ ﺟﺎءﻧﺎ ﻣﻦ ﻧﺬﻳﺮ، ﻓﻴﻘﻮﻝ ﻣﻦ ﺷﻬﻮﺩﻙ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﻭﺃﻣﺘﻪ، ((ﻓﻴﺠﺎء ﺑﻜﻢ ﻓﺘﺸﻬﺪﻭﻥ))، ﺛﻢ ﻗﺮﺃ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ {ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺟﻌﻠﻨﺎﻛﻢ ﺃﻣﺔ ﻭﺳﻄﺎ} ﻗﺎﻝ ﻋﺪﻻ {ﻟﺘﻜﻮﻧﻮا ﺷﻬﺪاء ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﻳﻜﻮﻥ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺷﻬﻴﺪا} ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭﻋﺒﺪ ﺑﻦ ﺣﻤﻴﺪ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﺔ، ﻭاﻟﺘﺮﻣﺬﻱ.
كيف شهدنا؟ هل شاهدناهم بأعيننا أم صدقنا كتاب ربنا الذي أخبرنا فيه عنهم،. قال،. ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾،. نحن لم نرَهم بأعيننا،. إنما اكتفينا بما قاله الحق ربنا، فصدقنا قوله،. فلا يحق لمؤمن أن يرد علىٰ ربه بعد أن قال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا..﴾ فيقول: لا،. لم نرَ! هذا ليس من الأدب مع اللّـه،. نسأل اللّـه السلامة.
3 ــــــ الغيب،.
هذا الذي فرَّق بيننا وبين الملاحدة الذين لا يؤمنون بالغيبيات ولا الروحانيات إلا ما تراه أعينهم وتحسه جوارحهم،. فهم ينكرون الله لأنهم لا يرونه، وتلك الطائفة المسلمة ينكرون رؤيته، واعجبا كيف تشابهت قلوبهم،. قد وضعوا أنفسهم في موقف حرج،. لا يملكون رد الملحد في شيءٍ،. فإن قالوا بأن خلائق اللّٰه تدل على وجود اللّٰه،. فسيرد الملحد، يا عزيزي، هذا الخلق يدل على عظمة الطبيعة، أو هو من البروتون والإلكترون، وليس مما لا تراه ولن تراه حتى لو مت وبعثت وتنعمت! أين الله هذا الذي تكلمنا عنه؟! تؤمن به ولا تراه ولن تراه كذلك؟! فلم تؤمن به أساساً؟! آمن بالطبيعة التي خلقتك وأماتتك وبعثتك وأدخلتك جنانها الطبيعية الخلابة،.
حقيقةً، حجة الملحد في محلها وهي أقوى من حجة تلك الطائفة،. فما المانع أن يكون شيء آخر غير الله هو الذي يفعل ذلك كله؟! فلا برهان عندهم أنه الله، ولا حتى يوم القيامة يستطيعون إثبات أن كل ذلك من الله،. لأنه عندهم لا يُرى، فلن يبرهنوا شيئا،.
ثم قل لي،. ما الفرق بين العدم الذي لا وجود له،. وبين الله الذي لن تراه ولن تستطيع إثبات وجوده؟! أنت بهذا النكران جعلت الله كالعدم، لا وجود له،. لا تستدل عليه بمخلوقاته، فالخالق المخفي الذي لا يُرى قد يكون أي شيء لا يُرى،. ولن تستطيع برهنته إلا برؤيته، ولكن طالما أنكرت رؤيته، فتساوى عندك كل شيءٍ لا يُرى،. وأصبح احتمالاً أن يكون الخالق هو الله،.
ــ الغيب الذي أُمرنا بالإيمان به كثير،. ولكن يدرك ويلاحظ كل ناظرٍ في القُــرآن، أن أعظمها وأشدها وأعلاها هو الإيمان،. ﴿بالله واليوم الآخر﴾،. وذلك بسبب كثرة تكرارها في القُــرآن بصورة واضحة جلية،. وهنا بعض الآيات،. ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ ((مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا..﴾ [البقرة 62]،.
﴿((یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ...﴾ [آل عمران 114]،.
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ ((تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا﴾ [النساء 59]،.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ ((مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [المائدة 69]،.
﴿إِنَّمَا یَعۡمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ ((مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ یَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَ..﴾ [التوبة 18]،.
﴿أَجَعَلۡتُمۡ سِقَایَةَ ٱلۡحَاۤجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ((ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) وَجَـٰهَدَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ..﴾ [التوبة 19]،.
﴿إِنَّمَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ ((لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) وَٱرۡتَابَتۡ قُلُوبُهُمۡ..﴾ [التوبة 45]،.
﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمࣰا ((یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ)) یُوَاۤدُّونَ مَنۡ حَاۤدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ..﴾ [المجادلة 22]،.
وكذلك على لسان النّبي ﷺ،. فكم من مرة قال،. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت،... من كان يؤمن باللّٰه واليوم الآخر فليكرم جاره، لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة كذا وكذا.... الخ،.
فيبدو أن أعلى الغيب إيماناً هو الإيمان بالله واليوم الآخر،. ولكن،....
هل سيبقى هذا الغيب غيباً للأبد؟! أم لا بد أن يأتي يوم ويتحقق فيه رؤية ومشاهدة هذا الغيب الذي لطالما آمنا به وصدقناه حين كان غيباً علينا؟،. أليس من باب تحقيق الحق أن نرى ما كنا نؤمن به؟،. والله فوق ذلك كله،. كنا نعبده ونتبعه ونصدقه ونخشاه ونتقيه طيلة حياتنا في الدنيا!
فإن كان هذا الغيب سيبقى غيباً للأبد، ولن نراه ولن نعرفه ولن نشاهده، حينها يحق للملحد والكافر أن يقول أين ما آمنتم به؟! أين الذي كنتم تخشونه دون رؤية؟!
وقفة صريحة،. هذه النقطة عقلية منطقية أكثر من كونها حجة بذاتها، بل هي من باب المنطق والتفكر والتعقل، وهذا ما يدين به منكري رؤية الله،. فأعظم حججهم هو المنطق والعقل، وبه كذبوا رؤية الله،. ولكني ذكرتها هنا متعمداً، لجعلها مقدمة ومفتاح لما سيأتي من حجج وبراهين في النقطة التالية،.
4 ــــــ اللقاء، أو اللقيا، أو الإلتقاء، أو الملاقاة،.
اللقيا أو الملاقاة،. يقتضي منها الرؤية بالضرورة،. بل يستلزم منها الرؤية، بدليل قول الله،. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن ((تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ))﴾ [آل عمران 143]،. فاللقاء يقتضي الرؤية تحقيقاً،. ودليل وسياق الآية واضح جداً، حين ذكر اللقاء وقرنها بالرؤية والنظر معاً،. تأكيداً لما تقتضيه الملاقاة،.
وقال كذلك،. ﴿وَإِذْ ((يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ)) قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ﴾ [الأنفال 44]،. هنا مرةً أخرى، قرن الرؤية باللقاء، بل وذكر العين وتأثيرها بعد اللقاء،. فلا شك ولا ريب أن اللقاء يقتضي تحقيق الرؤية بالعين،. بل يلزم من كل لقاء أن تكون قد رأيت ما لقيت، وإلا لن يمسى ذلك ملاقاة،. قد يسمى محاذاة، موازاة، اقتراب، ولكنه لن يمسى ملاقاة طالما ليس فيه رؤية، والآيات كافية لبرهان ذلك،.
وكما أن الله جعل نفسه غيباً عنا، واليوم الآخر غيبٌ عنا،. وألزمنا الإيمان به والتصديق، فقد وعدنا بلقاء هذا الغيب لقاءً مفصلاً، يقتضي منه رؤيتنا للّٰه عياناً، ومشاهدة للآخرة ونظرةٌ واضحة بعد تحقيق هذا اللقاء،.
ونظراً أن القُــرآن مليئ بالآيات التي تثبت لقاء الله واليوم الآخر،. فلن نذكرها كلها،. ولكن نذكر بعض الآيات على لقاء الآخرة، وبعض آيات على لقاء الله،. فإن تبين هذا اللقاء، يتبين بعدها أن رؤية الله متحققة فيه لا محالة،.
ــــ لقاء الآخرة،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ((وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ)) حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف 147]،.
﴿يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ ((لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا)) قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأنعام 130]،.
﴿فَذُوقُوا۟ بِمَا نَسِیتُمۡ ((لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَاۤ)) إِنَّا نَسِینَـٰكُمۡ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [السجدة 14]،.
﴿فَذَرۡهُمۡ یَخُوضُوا۟ وَیَلۡعَبُوا۟ حَتَّىٰ ((یُلَـٰقُوا۟ یَوۡمَهُمُ)) ٱلَّذِي یُوعَدُونَ﴾ [الزخرف 83]،.
﴿وَقِیلَ ٱلۡیَوۡمَ نَنسَاكُمۡ كَمَا نَسِیتُمۡ ((لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَا)) وَمَأۡوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِینَ﴾ [الجاثية 34]،.
﴿وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ ((بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ)) وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون 33]،.
﴿وَسِیقَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَ ٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَاۤ أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ رُسُلࣱ مِّنكُمۡ یَتۡلُونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِ رَبِّكُمۡ وَیُنذِرُونَكُمۡ ((لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَا)) قَالُوا۟ بَلَىٰ وَلَـٰكِنۡ حَقَّتۡ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [الزمر 71]،.
ومن أسماء يوم القيامة،. اليوم المشهود،. ﴿إِنَّ فِي ذَ ٰلِكَ لَآیَةࣰ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡآخِرَةِ ذَ ٰلِكَ یَوۡمࣱ مَّجۡمُوعࣱ لَّهُ ٱلنَّاسُ ((وَذَ ٰلِكَ یَوۡمࣱ مَّشۡهُودࣱ))﴾ [هود 103]،. وحتى لا نكرر ما قلناه في معنى الشهادة،. ندعوا القارئ للرجوع للنقطة 2 حتى يتيقن أن الآخرة يومٌ سنراه بالعين،. وكل غيبٍ آمنا به سنراه في اليوم المشهود،.
ــــ لقاء الله،.
﴿یَا أَیُّهَا ٱلۡإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ((إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحࣰا فَمُلَاقِیهِ))﴾ [الانشقاق 6]،. تعمدت وضع هذه الآية في صدر الأدلة على لقيا الله، والسبب أن هذه الآية جائت في بداية سورة الانشقاق، أي بعد سورة المطففين التي كان في خاتمتها،. ﴿عَلَى ٱلۡأَرَاۤئكِ ((یَنظُرُونَ)) هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ﴾ [المطففين 35 - 36]،. وهذا تأكيدٌ على ما ذكرناه في النقطة 1 أن (ينظرون) هنا، أي ينظرون إلى اللّٰه،. وأنه النظر وليس الانتظار كما توهم بعضهم،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ((بِلِقَآءِ ٱللَّهِ)) حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُون﴾ [الأنعام 31]،.
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ ((بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ)) تُوقِنُونَ﴾ [الرعد 2]،.
﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ ((لِقَآءَ رَبِّهِ)) فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾ [الكهف 110]،.
﴿وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ ((مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ)) وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ [هود 29]،.
﴿مَن كَانَ يَرْجُواْ ((لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ)) وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت 5]،.
﴿ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ((مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ)) وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ﴾ [البقرة 46]،.
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ ذِكۡرࣰا كَثِیرࣰا وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلًا هُوَ ٱلَّذِي یُصَلِّي عَلَیۡكُمۡ وَمَلَـٰۤئكَتُهُ لِیُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَحِیمࣰا ((تَحِیَّتُهُمۡ یَوۡمَ یَلۡقَوۡنَهُ سَلَامࣱ)) وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَرِیمࣰا﴾ [الأحزاب 41 - 44]،.
﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِي ٱلۡآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ أَلَاۤ إِنَّهُمۡ ((فِي مِرۡیَةࣲ مِّن لِّقَاۤءِ رَبِّهِمۡ)) أَلَاۤ إِنَّهُ بِكُلِّ شَیۡءࣲ مُّحِیطُ﴾ [فصلت 53 - 54]،.
هذا يكفي لكل مبصر أن يعلم بل يتيقن بلقاء الله،. ورؤية الله في هذا اللقاء،. فلا لقاء بلا رؤية،.
4 ــــــ الرجوع،.
ذكرنا في النقطة 2 أننا شاهدنا الله وأشهدنا على أنفسنا، وقد حصل ذلك قبل أن نولد ونخلق في بطون أمهاتنا،. فقد كنا عند الله يومها،. وحين يقول الله أننا راجعون إليه،. في آيات كثيرة في القُــرآن،. إنما هو رجوع لمثل ذلك الموقف الذي سنقف فيه بين يدي الله،. يراجع ويسألنا عن ذلك الميثاق الذي أخذه علينا جميعاً،.
فالرجوع ملاقاة للّٰه مرة أخرى بعد انقضاء المهمة التي خلقنا الله لها، وبعد انقضاء الاختبار الذي كنا فيه في الحياة الدنيا،. وهنا بعض الآيات التي تتكلم عن رجوعنا للّٰه،.
﴿ٱللَّهُ یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ ثُمَّ ((إِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ))﴾ [الروم 11]،. ﴿وَٱلَّذِینَ یُؤۡتُونَ مَاۤ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ ((إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَ ٰجِعُونَ))﴾ [المؤمنون 60]،. ﴿ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤا۟ إِنَّا لِلَّهِ ((وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ))﴾ [البقرة 156]،. ﴿كَیۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَ ٰتࣰا فَأَحۡیَـٰكُمۡ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یُحۡیِیكُمۡ ((ثُمَّ إِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ))﴾ [البقرة 28]،. ﴿أَلَاۤ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قَدۡ یَعۡلَمُ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ ((وَیَوۡمَ یُرۡجَعُونَ إِلَیۡهِ)) فَیُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا۟ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمُ﴾ [النور 64]،. ﴿إِنَّمَا یَسۡتَجِیبُ ٱلَّذِینَ یَسۡمَعُونَ وَٱلۡمَوۡتَىٰ یَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ ((ثُمَّ إِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ))﴾ [الأنعام 36]،. ﴿هُوَ یُحۡيي وَیُمِیتُ ((وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ))﴾ [يونس 56]،. ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ ٱلۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَیۡهَا ((وَإِلَیۡنَا یُرۡجَعُونَ)﴾ [مريم 40]،. ﴿وَٱتَّقُوا۟ یَوۡمࣰا ((تُرۡجَعُونَ فِیهِ إِلَى ٱللَّهِ)) ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ) [البقرة 281]،.
الرجوع يقتضي لقائين،. لقاءٌ كان في الماضي، ولقاءٌ سيكون بعد رجعة وغياب،. ولا يمكن عقلاً أن تكون رجعت لأمر ما دون أن تلقاه وتراه، إلا إن كان ذلك الأمر معنوياً، فتقول مجازاً أنك رجعت للتشكيك مثلاً، أو رجعت للتفكير في الأمر مجدداً، ولكن سواءً كان ذلك الأمر معنوياً أو حسياً، فرجوعك إليه يلزم لقياك له، وأنك لزمته ولزمك، وحضرته وحضرك،. وإلا، كيف يكون الرجوع لشيء لا تبلغه ولا تراه؟! مثال، شخص غاب عن ولده وسافر وانقطع مدة،. ثم رجع إليه، ولكن حال بينه وبين ولده جدار، أو فئة، أو قانون منعه رؤيته،. فهل تحقق رجوعه هكذا؟! لا،. ولو قلت نعم ولكن حال بينهما أمر،. فأقول، ألم تفهم وتعي من كلمة (رجع) أنه قد التقاه قبل ذلك؟ وكان معه وحضره ولزمه؟! ثم فارق وغاب مدة،. فلما رجع إليه ليلقاه حيل بينهما لسبب طارئ،. وإلا فالرجوع كان في الأصل لأجل الملاقاة كأول مرة،. ولا يسمى الرجوع رجوعاً إلا لأنك كنت عنده من سابقاً،.
كما يسأل الكفار الرجوع للدنيا،. ﴿وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَاۤ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا ((فَٱرۡجِعۡنَا)) نَعۡمَلۡ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة 12]،. وكما وعد الله أم موسى برجوع ولدها إليه،. ﴿إِذۡ تَمۡشِیۤ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن یَكۡفُلُهُ ((فَرَجَعۡنَاكَ إِلَىٰۤ أُمِّكَ)) كَي تَقَرَّ عَیۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَ..﴾ [طه 40]،. وكما قال المنافقون،.(یَقُولُونَ لَئن ((رَّجَعۡنَاۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ)) لَیُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّ..﴾ [المنافقون 8]،. كل ذلك الرجوع، تحقق فيه اللقيا أول مرة لزاماً،.
ومن الكلمات المشابهة للرجوع هو المَرَد أو الردة،. أن مردنا إلى الله،. وقد وردت آيات فيها المرد إلى الله،. ﴿ثُمَّ رُدُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَاهُمُ ٱلۡحَقِّ..﴾ [الأنعام 61 - 62]،. ﴿..وَرُدُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَاهُمُ ٱلۡحَقِّ..﴾ [يونس 30]،. ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدۡعُونَنِي إِلَیۡهِ لَیۡسَ لَهُ دَعۡوَةࣱ فِي ٱلدُّنۡیَا وَلَا فِي ٱلۡآخِرَةِ ((وَأَنَّ مَرَدَّنَاۤ إِلَى ٱللَّهِ)) وَأَنَّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ هُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ﴾ [غافر 43]،.
كذلك هذه، من مضامين معناه،. أنك كنت عند الله،. ثم ذهبت وغبت وابتعدت،. وسترد إليه في يوم ما،.
5 ــــــ سورة يونس والرؤية،.
ذكرت نقطة ((الرجوع إلى الله)) متعمداً بعد الكلام عن ((لقاء الله)) الذي أثبتنا فيه رؤية الله،. حيث أني تركت آياتٍ كثيرة، فيها لقاء الله ووفرتها لهذه النقطة،. والسبب أن الآيات التي تركتها وجدتها مجتمعة في سورة يونس،. تلك السورة العجيبة التي فيها إشارات وتلميحات كثيرة على رؤية الله الحق دون حجاب،. ولقائه بحق، والرجوع إليه بحق،. فهذه النقطة للكلام عن هذه السورة التي مدارها على الرؤية، وهي مما يصب في موضوعنا،.
انظر لتكرار الكلمات التي تدل على الرجوع واللقاء وأن مردنا إلى اللّٰه،. كل ذلك في سورة يونس،.
ــ ﴿((إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)) جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ..﴾ [يونس 4]،.
ــ ﴿إِنَّ الَّذِينَ ((لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)) وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يونس 7 ـ 8]،.
ــ ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ ((لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)) فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [يونس 11]،.
﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ ((لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)) ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس 15]،.
ــ ﴿...((وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ)) مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ..﴾ [يونس 30]،.
﴿..قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا ((بِلِقَاءِ اللَّهِ)) وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس 45]،.
ــ ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ((فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ)) ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس 46]،.
ــــ في سورة يونس رَأَىٰ فرعون العذاب فآمن،. ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ((فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا)) الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس 88] فرَأَىٰ فرعون العذاب، فآمن!
ــــ في سورة يونس آمن قوم يونس بعد أن (رأوا) العذاب الأليم،. ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ((حَتَّىٰ يَرَوُا)) الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ((إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا))..﴾ [يونس 96 ـ 98]،.
ــــ يونس في اللسان من المآنسة، والمآنسة تعني الرؤية! ﴿إِذْ ((رَأَىٰ)) نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ((آنَسْتُ)) نَارًا...﴾ [طه 10]!
يونس من آنس، المآنسة هي الرؤية ولكن ليست أي رؤية،. فهي رؤية حق ويقين أي حين تكون متأكداً أتم التأكيد، هذه هي المآنسة، تجدها كذلك هنا،. ﴿وَٱبۡتَلُوا۟ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ((ءَانَسۡتُم)) مِّنۡهُمۡ رُشۡدࣰا فَٱدۡفَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ وَلَا تَأۡكُلُوهَاۤ إِسۡرَافࣰا وَبِدَارًا أَن یَكۡبَرُوا۟ۚ وَمَن كَانَ غَنِیࣰّا فَلۡیَسۡتَعۡفِفۡ وَمَن كَانَ فَقِیرࣰا فَلۡیَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَیۡهِمۡ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُوا۟ عَلَیۡهِمۡ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِیبࣰا﴾ [النساء 6]
إذا رأيتم وتأكدتم تماما أن اليتامى ترشدوا ولم يعودوا سفهاء،. ومن تصريفات كلمة يونس كلمة الإنس، والإنسي، وعكسه الجني،. الفرق بينهما، أن الجني مستور لا يُرى، والإنسي مكشوف يُرى،. فاسم السورة كذلك يدور حول معنى الرؤية،.
ــــــــ فتلاحظ أن مدار سورة يونس كان على الرؤية وقد تركت أكثر مما ذكرت من أدلة على الرابط بين الرؤية وسورة يونس حتى لا أطيل المقال،. ولكن أتعلم لماذا ذكرت كل هذا؟ لأن سورة يونس فيها الآية الوحيدة في القُرآن التي فيها الزيادة بعد الحسنى،. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ ((وَزِيَادَةٌ)) وَلَا يَرْهَقُ ((وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّة)) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَٱلَّذِینَ كَسَبُوا۟ ٱلسَّیِّـَٔاتِ جَزَاۤءُ سَیِّئَةِ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةࣱ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمࣲ ((كَأَنَّمَا أُغۡشِیَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِ مُظۡلِمًا)) أُو۟لَئكَ أَصۡحَابُ ٱلنَّارِ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾ [يونس 26 ــ 27]،.
الحسنى هي الجنة،. ولكن ما الزيادة بعدها!؟ ألا يدل هذا على صحة قول من قال بأن الزيادة هي رؤية اللّٰه في الجنة؟!
خاصةً أن السياق بعدها تكلم عن وجوه الناظرين وكيف لا يرهقها قتر ولا ذلة،. وهذا ما كان يذكره الله كذلك في تلك المواضع التي ذكر فيها النظر إليه،. في قوله،. ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِیمٍ عَلَى ٱلۡأَرَاۤئكِ ((یَنظُرُونَ)) تَعۡرِفُ فِي ((وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ)) ٱلنَّعِیمِ﴾،. وقوله،. ﴿((وُجُوهࣱ یَوۡمَئذࣲ نَّاضِرَةٌ)) إِلَىٰ ((رَبِّهَا نَاظِرَةࣱ))﴾،. فقال هنا،. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ ((وَزِيَادَةٌ)) وَلَا يَرْهَقُ ((وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّة))..﴾،. هل لاحظت كيف يذكر الله الوجوه النضرة عند ذكره لرؤيتنا له؟!
روي عن رسُول اللّه ﷺ بسند فيه مقال،. ﴿إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، قال يقولُ اللهُ: تريدونَ شيئا أزيدكُم؟ فيقولونَ: ((ألم تبيضْ وجوهنا))؟ ألم تدخلنا الجنةَ وتنجنا من النار، قال: فيكشِفُ الحجابَ. فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهِم من ((النظرِ إلى ربّهم))، ثم تَلا هذهِ الآيةَ {لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس 26]﴾ رواه مسلم 181.
5 ــ نحن نعبد الله لأننا نؤمن بأننا سنلقاه مجدداً، ونرجوا رحمته يوم نرجع إليه،. والويل لمن أنكر لقياه،.
﴿وَٱلَّذِينَ ((كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ)) أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [العنكبوت 23]،.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ((وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ))﴾ [الروم 8]،.
﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ((كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ)) فَأُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الروم 16]،.
﴿وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ((بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ))﴾ [السجدة 10]،.
ــــــ استدل بعضهم بآية،. ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَارُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ﴾ [الأنعام 103]،. فزعم أن رؤية الله مستحيلة!
ــ أولاً، ننظر في سياق الآية،. أين جائت وعن ماذا تتكلم! لنعلم لماذا ذكر الله البصر ولم يذكر الرؤية مثلاً،. وما الفرق بينهما،.
البصر منها اشتق لفظ البصيرة، وهي أعلى درجة من "العلم" ذاته،. أما الرؤية فمن مشتقاتها الرأي،. والرأي يحتمل فيه الصواب والخطأ،. فالرؤية لا تلزم العلم والإدراك،. ولكن البصيرة تلزم ذلك،. فالإبصار يفضي للعلم والإدراك، وليس بالضرورة أن يتحصل العلم بمجرد الرؤية،. وهذا الفارق مهم لمعرفة لماذا ذكر الله الإبصار هنا،. سنستعرض السياق الآن،. ولاحظ وأنت تقرأ، أن الكفار قالوا عن الله كلاماً بغير علم، أي دون أن يتبصروا فيه،. وأن الله ليس كأحد خلقه،. خلق كل شيء وحده، لم يكن بحاجة للصاحبة ولا للبنين ولا للبنات ليسندوه ويساعدوه، بل كل شيء يفعله بوحده،. وهذا ما لم يعيه الكافر فهال عليه الأمر،. فالله قال بعدها أنكم لا تعلمون من هو الله، لا تدركون من هو الله، لا تحيطون به علماً، وهو يعلم كل شيء، فكيف تتكلمون عنه بغير علم ولا بصائر؟!
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡ وَخَرَقُوا۟ لَهُ بَنِینَ وَبَنَاتِۭ ((بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ)) سُبۡحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا یَصِفُونَ بَدِیعُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُ وَلَدࣱ وَلَمۡ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةࣱ وَخَلَقَ ((كُلَّ شَيءࣲ)) وَهُوَ ((بِكُلِّ شَيءٍ عَلِیمࣱ)) ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ ((لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ خَالقُ كُلِّ شَيءࣲ)) فَٱعۡبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ ((كُلِّ شَيءࣲ)) وَكِیلࣱ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَارُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصارَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ قَدۡ ((جَاۤءَكُم بَصَاۤئرُ)) مِن رَّبِّكُمۡ ((فَمَنۡ أَبۡصَرَ)) فَلِنَفۡسِهِ ((وَمَنۡ عَمِي)) فَعَلَیۡهَا وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِحَفِیظࣲ﴾ [الأنعام 100 - 104]،.
فالآية مبصرة، في سياقها بصائر وعلم،. الكلام فيها عن البصائر التي هي عكس العمى،. ذلك أن المشركين تكلموا عن الله بغير علم، واتهموه بالبنين والبنات بغير علم،. تلكموا عنه وهو غيب عنهم،. وقضوا فيه وحكموا عليه بجهل،. فالكلام كله عن العلم،.
وفي القُــرآن مثل ذلك كثير،. آيات شبيهة بها، تفسرها وتبين أنهم يتكلمون عن الله بغير علم،. مثال ذلك،.
﴿وَیَجۡعَلُونَ لِمَا ((لَا یَعۡلَمُونَ)) نَصِیبࣰا مِّمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ وَیَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَـاتِ سُبۡحَانَهُ وَلَهُم مَّا یَشۡتَهُونَ﴾ [النحل 56 - 57]،.
﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَـٰۤئكَةَ إِنَـٰثࣰا وَهُمۡ شَـٰهِدُونَ أَلَاۤ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَیَقُولُونَ وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِینَ مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ((أَمۡ لَكُمۡ سُلۡطَـٰنࣱ مُّبِینࣱ)) فَأۡتُوا۟ بِكِتَـٰبِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ وَجَعَلُوا۟ بَیۡنَهُ وَبَیۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبࣰاۚ وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ [الصافات 149 - 160]،.
والمثل الأخير من سورة يونس التي مدارها على الرؤية كما سبق وذكرنا،. فيه آية عظيمة، ينفي الله بها الشرك عن نفسه بطريقة مبهتة مدهشة،. اقرأها وقارنها بآية الأنعام،.ولاحظ مدى التشابه بينهما،. وكيف يتكلم فيه الكفار عن الله بغير علم ولا تبصر،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ((اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ((إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)) بِهَٰذَا ((أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس 66 ـ 70]،.
لاحظ أن الآية 66 تتكلم عن الشرك، والآية 68 كذلك عن الشرك، أما الآية التي بينهما 67،. آية عجيبة، تتكلم عن الليل والنهار، لا دخل لها بالشرك، ولكن هل تعلم أن الله يبطل بهذه الآية كل الشرك؟ كيف؟،.. قال،. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾،. اللّه ذكر الليل وما يقابله: أي النهار،. لكن حين ذكر السكون للّيل،.. يفترض (بأفهامنا القاصرة) أن يذكر ما يقابل السكون،. وهو الحركة، لكنه ذكر الإبصار، قال ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾، عكس السكون هو الحركة، وليس الإبصار! فلماذا ذكر الإبصار؟!
الناس في النهار (يبصرون)،. يتحركون ويقضون ويعملون ويسافرون،.. ولكن في الليل يسكنون،.. لماذا؟ لأنهم لا ((يبصرون))،. الليل ظلمة،. عتمة،. لا تستطيع أن تخرج وتعمل أو تصيد أو تشتغل في الظلمة، ففي الصيد قد تقتل إنساناً وأنت تظنه دابة، ففي الليل أنت لا ترى، ولا تبصر، فلا تعرف هذا الذي أمامك أهو رجل أم امرأة؟ فلا تستطيع أن تقضي بشيء،.. فبالتالي تمسك ولا تقضي بشيء حتى تبصر وتتأكد، لن تبني قرارك على ظن.
بإختصار: حين تُظلم عليك ولا تملك الهدى والنور تَسكن،.. لأنك لا تبصر ولا ترى فلا (تعلم)،.. كل ما بين يديك يصير غيباً فتسكن، هذا أنت يا إنسان،.. تسكن لأنك لا تملك النور الذي يدلك ويهديك (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَٰذَا)؟،.. فكيف تحكم على اللّه وهو (غيب) أن له ولد؟؟ أين رأيتَ الولد؟ أين رأيت الشريك؟ (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون)؟ لا ترى اللّـه،.. ولا ترى شيئاً في الغيب،.. ثم تقضي وتحكم به كما تشاء؟!
وكأن الله حين تكلم عن الليل الساكن يعلمك أن تسكن في الطريق المظلم، ولا تسير حتى تبصر أمامك فتعرف أين تضع رجلك في الطريق،. الطريق الذي قدمته لنا ناسا وأعوانها طريق مظلم لا ترى فيه نوراً ولا دليلاً ولا برهاناً، لا بينة لديك ولا لديهم ولا هادي ولا نور، طريق لا تستطيع القضاء فيه فقف، قف مكانك حتى تجد نوراً تهتدي به، حتى تبصر، حتى تجد دليلاً يقودك لبر النجاة،. ولن تجد هادياً أهدى من القُــرآن،. هو نور، بصائر،. آيات، بينات، مبيّنات،.
عوداً على آية الأنعام،. فالإدراك بالبصر الذي فيه، هو جهل الناس بربهم، لا يحيطون به علماً، ويتكلمون عنه بالظن،. وليست الآية على استحالة الرؤية،. إنما هي عن العلم والبصيرة، والآية التي تليها مباشرةً قال فيها،. ﴿قَدۡ جَاۤءَكُم ((بَصَاۤئرُ)) مِن رَّبِّكُمۡ﴾،. أي علم،. ﴿فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِ وَمَنۡ عَمِي فَعَلَیۡهَا﴾،. ولا يستوي الأعمى والبصير!
ــ ثانياً،. هذه الآية تتكلم عن إدراك البصر وليس رؤية البصر، الإدراك هو التمكن،.
نستعرض بعض آيات القُــرآن لنعي معنى الإدراك،.
﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ ((يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ)) وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ..﴾ [النساء 78]،. ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ((حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ)) قَالَ آمَنتُ...﴾ [يونس 90]،. ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))﴾ [الشعراء 61]،. ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً ((لاَّ تَخَافُ دَرَكاً)) وَلاَ تَخْشَىٰ﴾ [طه 77]،. ﴿لَّوْلاَ ((أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ)) لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ [القلم 49]،. ﴿لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس 40]،.
فلا يستطيع أحد أن يدرك الله بعلمٍ، مهما كان، هذا الله الذي خلق كل شيء، بديع السماوات والأرض، له كل شيء، بكل شيء عليم، بكل شيء محيط، كل ذلك وهو واحد أحد، لا شريك معه، ولا ولد ولا صاحبة،.
فهل وجدت في هذا الكلام ما ينفي رؤية الله؟ لا،.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينْ،. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ،. رَبَنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا،.. ﴿ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾،.
بكيبورد، محسن الغيثي،.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق