أين كانت جنة آدم؟
أول ما خلق الله آدم قال أنه سيجعله خليفة (في الأرض)،. ولم يقل أبداً أنه سيكون في السماء حيث جنان الخلد الموعودة للمؤمنين،. ولكن القارئ حين قرأ كلمة الجنة، طار بمخيلته مباشرةً للسماء،. فلم يعد يتقبل ذهنه أن جنة آدم على الأرض،. أضف لذلك أنه سمع كلمة (اهبطوا منها)،. مما أكدت له الأمر أن الجنة في السماء! وهذا مما لا يلزم،. فجنة الخلد التي وعدت للمتقين تختلف عن جنة آدم، رغم تشابه الاسمين،. وسنبين ذلك فيما يلي،.
آدم خُلق من تراب الأرض، وجُعل خليفةً في الأرض، فعلى من ادعى أن الله رفعه للأعلى وجعله في جنة السماء أن يأتي ببينة على ادعائه،. وإلا فيكون الأصل أنه أُبقي فيها (في الأرض)،.
آدم كان في الجنة، نعم، ولا يقال للشيء جنة، حتى يكتمل فيها شرط أساسي،. أن تكون محاطة مستورة محجوبة، بسور أو شجر أن زرع ونخل، لا يُرى ما بها،.
ــــ معنى جنة،.
الجنة من جَنَنَ،. ومن تصاريف هذا الجذر كلمات كثيرة، كلها جمعت في ضمنها الستر والخفاء،. مثل الجِنَّة أي الجِنّ وهم مستورون محجوبون، والجنين في بطن أمه سمي كذلك كونه مستور،. والمجن، يستر ويخفي به المحارب نفسه من عدوه،. وإبراهيم جَنّ عليه الليل، أي أظلم عليه فستره فلا يري،. والمجنون، الذي سُتر عقله واختفى.،. كل واحدة منهن لها معنىً مختلف،. ولكن طالما اجتمعوا لجذر واحد، فبينهم معنىً ضمني يشملهم جميعاً،. والجنة منها،. وجب أن تكون مستورةً مغطاة،.
ــ شرط الخفاء والستر،. قالَ اْللّٰه عن الرجل في سورة الكهف،. ﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَابࣲ ((وَحَفَفۡنَاهُمَا بِنَخۡلࣲ)) وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا﴾ [الكهف 32]،. ولاحظ أن عكس الجنة النار، والنار مكشوفة مفضوحة،. يقال (نار على علم)،. كناية عن الشهرة،. والمسلم لن يدخل الجنة حتى (يكفر) الله عنه سيئاته،. قالَ اْللّٰه،. ﴿..وَمَن یُؤۡمِن بِٱللَّهِ وَیَعۡمَلۡ صالِحࣰا ((یُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَیِّـَٔاتِه وَیُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ)) تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَارُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا أَبَدࣰا ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾ [التغابن 9]،. وقال،. ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ تُوبُوا۟ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةࣰ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ ((أَن یُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَیُدۡخِلَكُمۡ جَنَّاتࣲ)) تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ..﴾ [التحريم 8]،. ويكفّر بالعربية أي يغطي ويستر،. فبعد هذه التغطية، تدخل الجنة (وهي مغطاة مستورة)،.
ــــ أين كانت جنة آدم؟،.
ــ النفي قبل الاثبات،.
ــ (أ) النفي،. لم تكن جنة آدم في السماء كما يُتصور ذلك،.
1 ــ دخول إبليس الجنة،. لم يكن إبليس ممنوعاً من دخولها، فهو حين وسوس لهم،. ﴿((فَوَسۡوَسَ إِلَیۡهِ ٱلشَّیۡطَانُ)) قَالَ یَا آدَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكࣲ لَّا یَبۡلَىٰ﴾ [طه 120]،. ﴿((فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ)) لِیُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَا تِهِمَا وَقَالَ مَا نَهاكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَا مَلَكَیۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَـٰلِدِینَ﴾ [الأعراف 20]،. لم تكن الوسوسة من بعد،. إنما من قرب،. فالوسوسة تكون في الصدور، ﴿مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ ٱلَّذِي یُوَسۡوِسُ ((فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ))﴾ [الناس 4 - 5]،. وتكون من قريب،. من خلفهم ومن بين أيديهم وهكذا،. ﴿قَالَ أَنظِرۡنِي إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِینَ قَالَ فَبِمَاۤ أَغۡوَیۡتَني لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَ ٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ ثُمَّ لَـَٔاتِیَنَّهُم مِّنۢ ((بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَیۡمَـٰنِهِمۡ وَعَن شَمَاۤئلِهِمۡ)) وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ﴾ [الأعراف 14 - 17]،.
ولو كانت جنة الخلد التي وعد المتقون،. فكيف لإبليس أن يدخلها وهو بكل هذا السوء والفسق؟! بل هو رأس الشر،. ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَ قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَني مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُ مِن طِینࣲ قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا یَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِیهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِینَ﴾ [الأعراف 12 - 13]،.
وكل ما يستطيعه الشيطان هو أن يدعوك فتستجيب له،. ﴿وَقَالَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَمَّا قُضِي ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡ وَمَا كَانَ لِي عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ ((إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِي)) فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُم مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِيِّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾ [إبراهيم 22]،.
2 ــ الفساد،. أول ما استغربت الملائكة من الخلق الجديد هو كونه مفسد،. ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤئكَةِ إِنِّي جَاعِلࣱ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَة ((قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا)) وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة 30]،. ولو نقبت عن كلمات الفساد في القُــرآن تجدها كلها تذكر مع الأرض،. فالفساد لم يطل السماء ولم يقترب منها،. فهي محفوظة من الفساد،. إنما الأرض هي التي نالها الفساد،. قالَ اْللّٰه،. ﴿((ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ)) بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ [الروم 41]،. وأول فساد عرف عن آدم هو عصيانه لربه وأكله من الشجرة التي كانت في الجنة،. فــ جنةٌ يحصل فيها فساد،. بالتأكيد هي ليست في السماء،. بل على الأرض،.
3 ــ الإغواء والتزييين،. قبل معصية آدم، كان ثمة فساد آخر، هو فساد إبليس بعصيانه ربه،. أبى أن يسجد، واستكبر، وتعالى، ثم وسوس لآدم، وأغواه، وزين له،. ولكن إبليس لا يستطيع فعل ذلك كله في السماء يستحيل هذا،. لكنه يستطيع فعله على الأرض،. قالَ اْللّٰه على لسانه،. ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِي إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِینَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَني ((لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ)) وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ [الحجر 36 - 39]،. هذه الآية لو أننا حذفنا منها جملة (في الأرض)،. لتغير المعنى كثيراً،. ولكن هذه الزيادة فيها علم أن الإغواء والتزيين لن يكونا إلا في الأرض،. وإلا،... لكانت كما قالَ اْللّٰه في سورة ص بنفس السياق من غير ذكر الأرض،. ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِي إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِینَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ [ص 79 - 83]،. إنما ذكرت الزيادة (في الأرض) في سورة الحجر من باب زيادة العلم وتثبيت الخبر أن التزيين والاغواء لن يكونا في السماء أبداً،. بل فقط في الأرض،.
اقرأ من سورة البقرة بعد الآية 30،. ولاحظ الترتيب الزمني،. خبر الخلق الجديد في الأرض، ثم حوار الملائكة، ثم علم الأسماء، ثم الأمر بالسجود، ثم استكبار إبليس،. ثم حوار إبليس، ثم أسكن آدم الجنة،.
قَد أنظر الله إبليس بعد أن استكبر، وذلك قبل أن يقول لآدم اسكن الجنة،. ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤئكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [البقرة 34 - 35]،. فحين أغواه كان في الأرض لزاماً،. كان قد قال قبلها واعترف أنه سيفعلها في الأرض فقط،. ﴿قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَني ((لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ)) وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ [الحجر 39]،. وليس في السماء،.
4 ــ كلمة ﴿اهبطوا﴾ وردت في القُــرآن بهذا التصريف 4 مرات فقط، 3 منها كانت لآدم ﷺ وهبوطه من الجنة ((للدنيا))، والأخيرة كانت لبني إسرائيل؛ حين أرادوا ما تُخرج الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، واستبدلوا الذي أدنى بالذي هو خير، قال لهم نبيهم موسى ﷺ ﴿((اهبطوا مصرَ)) فإن لكم ما سألتم﴾،. ولم يكونوا بمرتفع كالسماء حتى يقال بأن كلمة اهبطوا تلزم النزول من علو،. فكما أنهم هبطوا من أرض لأرض أخرى، فهبوط آدم كان كذلك، من أرض إلى أرض أخرى،. ولم يكن آدم في السماء قط،.
سبق كلمة الهبوط كلمة الإخراج،. قالَ اْللّٰه،. ﴿فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا ((فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِ)) وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ﴾ [البقرة 36]،. فالهبوط كان إخراجاً من وضع لوضع،. ومن حالة لحالة،. ﴿..فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِ..﴾،. وقد قيلت مرة لنوح ليهبط بسفينته على الأرض، والمعلوم أن السفينة لم تكن في السماء،. بل على الماء،. وقيلت مرة عن الحجازة أن منها من يهبط من خشية الله،. ولتفهم هبوط الحجارة من الخشية،. انظر للجبل حين سأل موسى ربه أن يراه،. تجلى الله للجبل فصار دكاً،. ولم يكن الجبل في السماء،. بل على الأرض،. وليس الهبوط نزول الحجارة من السماء،. تلك يسميها الله مطر،. ﴿فَجَعَلۡنَا عَـٰلِیَهَا سَافِلَهَا ((وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ حِجَارَةࣰ)) مِّن سِجِّیلٍ﴾ [الحجر 74]،.
5 ــ جنة الخلد ليس فيها لغو ولا تأثيم ولا كذب،. قالَ اْللّٰه،. ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا ((لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا))﴾ [الواقعة 25]،. ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا ((لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا))﴾ [النبأ 35]،. ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ فِيهَا ((لَاغِيَةً))﴾ [الغاشية 11] ،. ولكن جنة آدم كان فيها من اللغو الذي أحدثه إبليس،. وكان فيها إثم من آدم وكذب من إبليس،. وهذا لا يتحقق في جنة الخلد التي وعد المتقون،. إنما هي جنة أخرى،. ومكانها على الأرض،.
ــ (ب) الإثبات،.
1 ــ أول ما خلق الله آدم قال أنه سيجعله خليفة (في الأرض)،. ولم يقل أبداً أنه سيكون في السماء حيث جنان الخلد الموعودة للمؤمنين،. ولكن القارئ حين قرأ كلمة الجنة، طار بمخيلته مباشرةً للسماء،. فلم يعد يتقبل ذهنه أن جنة آدم على الأرض،. أضف لذلك أنه سمع كلمة (اهبطوا منها)،. مما أكدت له الأمر أن الجنة في السماء! وهذا مما لا يلزم،. فجنة الخلد التي وعدت للمتقين تختلف عن جنة آدم، رغم تشابه الاسمين،. وسنبين ذلك فيما يلي،.
آدم خُلق من تراب الأرض، وجُعل خليفةً في الأرض، فعلى من ادعى أن الله رفعه للأعلى وجعله في جنة السماء أن يأتي ببينة على ادعائه،. وإلا فيكون الأصل أنه أُبقي فيها (في الأرض)،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَلَقَدْ ((مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ)) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ((ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)) ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف 10 - 11]،. هذه الأيات تحدث الله عن الأرض والتمكين فيها، ثم تكلم عن بدء الخلق،.
2 ــ جنة آدم كانت على جبل الطور (في القدس)، ذلك لكثرة الشواهد الدالة على ذلك، جبل الطور ليس كبقية الجبال، بل له مكانةٌ خاصة، مع كونه على هذه الأرض،. والطور يشترك مع الجنة في بعض السمات،. فمثلاً،.
3 ــ الطور في أرضٍ مقدسة مباركة، تنبت الزرع والأشجار،. ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ﴾،. الجنة كذلك فيها زرع وشجر،.
4 ــ جبل الطور من أسمائه جبل الخُمُر، سمي بذلك لأن الأشجار تستره،. فالخمر بالعربية يعني الستر (كمثل معنى الجنة)،. والخَمْر يستر عقل الرجل، يذهب بعقله، ولا يتم صنعه إلا بعد مواراته وتخزينه (ستره لمدة)،. والخِمَار الغطاء تضعه المرأة لتستر نفسها،. ﴿..وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَا ((وَلۡیَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُیُوبِهِنَّ) وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ)) إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ..﴾ [النور 31]
5 ــ ومن أسماء جبل الطور كذلك،. (سينين)،. ﴿وطور سينين﴾،. وسينين بالعربية هو الجبل المشجّر، لاحظ كيف تَغَطى الجبل وسُتِر، كالجنة مستورة،.
6 ــ الطور جبلٌ مرتفعٌ وعالٍ، والجنة كذلك،. ﴿فَهُوَ فِي عِیشَةࣲ رَّاضِیَةࣲ فِي جَنَّةٍ عَالِیَةࣲ﴾ [الحاقة 21 - 22]،. ﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَئذࣲ نَّاعِمَةࣱ لِّسَعۡیِهَا رَاضِیَةࣱ فِي جَنَّةٍ عَالِیَةࣲ﴾ [الغاشية 8 - 10]،.
7 ــ الطور سبق وارتفع فوق بني إسرائيل وتعلق في الجو فوقهم،. فهذا الجبل ليس كبقية الجبال،. حتى في اسمه علامة، فهو "طور"، وكلمة طور من الطير، فهو يطير ويحلق كالطير! هذا جبلٌ عجيب، وكونه في بيت المقدس وجل الأنبياء كانوا هناك، كموسى ويعقوب وإبراهيم ونوح عمران وبنته مريم وسليمان وداوود وغيرهم، وعيسى سينزل هناك،. والمحشر هناك،.
فلا يبعُد أن تكون هذه هي الجنة التي كان فيها آدم من قبل،. وكانت عالية في الجو،. كما كانت فوق بني إسرائيل مرة،. بل العجيب، أن الله حين أخذ الميثاق على بني إسرائيل رفع لهم الجبل يومها، وكأنه تذكير لهم بما فوتهم أبوهم من قبل،. وليس الأمر على التهديد والوعيد بنسفهم بالجبل فوقكم كما زعمت التفاسير،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ((وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)) خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة 63]،.
وقال،. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ((وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)) خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة 93]،.
ولاحظ، في كلا الآيتين، في كل مرة يذكر الطور،، يقول قبلها،. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ..﴾،.
ولو رجعت لتفصيل مكان الميثاق الذي أخذه الله منا حين خلقنا أول مرة،. ستجد أن الله ذكر هذا الجبل تحديداً،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا ((الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ)) خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا)) أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [اﻷعراف 171 - 172]،.
فبالتالي نقول أن الجنة التي كان فيها آدم كانت في الأرض وليست في السماء،. كذلك الشجرة كانت في الأرض،. وسنأتي على ذكرها إِنْ شٰاْءَ اللّٰه،. وعلاقتها القوية بالأرض هذه،. وكأنها قطعة منها،. بل علامة على أن الجنة كانت على الأرض، وليست في السماوات،.
8 ــ لا غرابة أن تكون الجنة هنا في الأرض، حيث يذكر الله الجنات وأشجارها، ثم يتبعها مباشرة بذكر الطور الذي في سيناء،. (لا تنس سيناء هي سينين، هو الجبل المُشَجّر)،. قالَ اْللّٰه،. ﴿فَأَنشَأۡنَا لَكُم بِهِ ((جَنَّاتࣲ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَابࣲ)) لَّكُمۡ فِیهَا فَوا كِهُ كَثِیرَةࣱ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ((وَشَجَرَةࣰ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَیۡنَاءَ)) تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغࣲ لِّلۡآكِلِینَ﴾ [المؤمنون 19 - 20]،.
وحين ذكر التين والزيتون (هذه أشجار أصلها من القدس)،. ذكر بعدها طور سينين،. (سينين أي الجبل المُشَجَّر)،. ثم مباشرةً تكلم عن بداية خلق الإنسان، فقال،. ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ)) فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين 1 - 4]،. فواضح وضوح الشمس ومن السياق المتكرر، أن جبل "الطور" الموجود في القدس له علاقة وربط قوي بـداية "خلقنا"،. وبداية الخلق يعني "آدم"،.
فجنة آدم كانت على الأرض،. إنما ليست على مستوى الأرض تماماً،. ذلك لقوله،. ﴿اهبطوا منها﴾،. فتكون على جبل الطور،.. لماذا هي بالتحديد؟ لأنها هي التي ذكرت في الآية قبل الخلق،. ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِين﴾،.
9 ــ وليست صدفةً أن تكون سورة الذاريات،. تتبعها سورة الطور،. ﴿وَٱلطُّورِ وَكِتَـٰبࣲ مَّسۡطُور﴾ [الطور 1-2]،.
الذاريات من الذر،. والله يسمينا ذرية،. ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِن ((بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ)) وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ..﴾ [الأعراف 172]،. ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی ((ذَرَأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ)) وَإِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [المؤمنون 79]،. ﴿قُلۡ هُوَ ٱلَّذِی ((ذَرَأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ)) وَإِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [الملك 24]،.
ولاحظ العجب في الآيتين،. أن الله يتكلم عن الذرء في الأرض، ثم بعدها مباشرةً عن الحشر،. (وأرض المحشر في بيت المقدس كما هو معلوم)،.
والأعجب، أن الله في خاتمة سورة الذاريات ذكرَ الخلق، وذكر لماذا خلقنا،. في سورة الذاريات (منها الذرية)،. ثم ذكر بعدها مباشرةً الطور،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَمَا ((خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ)) إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ مَاۤ أُرِیدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقࣲ وَمَاۤ أُرِیدُ أَن یُطۡعِمُونِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِینُ فَإِنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ ذَنُوبࣰا مِّثۡلَ ذَنُوبِ أَصۡحَـٰبِهِمۡ فَلَا یَسۡتَعۡجِلُونِ فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن یَوۡمِهِمُ ٱلَّذِی یُوعَدُونَ﴾،. ﴿((وَٱلطُّورِ)) وَكِتَـٰبࣲ مَّسۡطُورࣲ فِي رَقࣲّ مَّنشُورࣲ﴾ [الذاريات 56 - الطور 3]،.
وحين تكلم عن التمكين في الأرض،. قال،. ﴿وَلَقَدْ ((مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ)) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ((ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)) ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف 10 - 11]،.
10 ــ القدس أرض المحشر، حين تكلم الله عن الحشر قال،. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ ((هُوَ یَحۡشُرُهُمۡ)) إِنَّهُ حَكِیمٌ عَلِیمࣱ ((وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَانَ)) مِن صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ﴾ [الحجر 25 - 26]،. وقال،. ﴿أَوَلَا یَذۡكُرُ ((ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ یَكُ شَیۡـࣰٔا فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ)) وَٱلشَّیَـٰطِینَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِیࣰّا﴾ [مريم 67 - 68]،.
فالعلاقة واضحة بين المحشر والمكان الذي خلقنا فيه،.
قال الله،. ﴿مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ﴾ [طه 55]،. نعم الآية عامة، ولكن لو وضعت في ذهنك أن آدم كان في الأرض المقدسة،. فمِن تربتها خُلِق، وإليها عاد، ومنها سيُخرج! وكلنا مثله،.
ــــــــ توابع مهمة،. لتكملة الصورة، وتثبيت القول،.
ــ مكان الطور،.
جبل الطور هو الذي بالقدس، وليس الجبل الذي بصحراء سيناء بمصر كما يظن الناس! ذاك جبل حجارته بركانية سوداء، أرضها ميتة، ليس فيها زرع ولا شجر،. ولا بركة،. وقد أهمله اليهود ولم يحرصوا عليه كما حرصوا على جبل المقدس لعلمهم بمكانته،. وهو اليوم مليئ بقبور حكماء وزعماء اليهود،. حتى أن اليهودي الثري في أوروبا وأمريكا يوصي بدفن جثته على جبل الطور،.
حين نادى الله موسى وكلمه،. ﴿فَلَمَّاۤ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَیۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن یَا مُوسَىٰۤ إِنِّي أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَالَمِینَ﴾ [القصص 30]،. كان ذلك في بقعة مباركة،. البركة فيها من بركة الأرض التي حولها،. فأرضها مباركة،. وليس صحراء سيناء كذلك،. والآية التي قبلها ذكرت صراحة أن المكان هو بجانب الطور،. ﴿فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِ ((ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ)) نَارࣰا قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوۤا۟ إِنِّي ءَانَسۡتُ نَارࣰا لَّعَلِّي ءَاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ﴾ [القصص 29]،. فالبقعة المباركة، والوحي، والشجرة، كانت بجانب الطور،. وليست في سيناء،.
وفي الحديث الذي في سنده كلام،. (يقول الله لعيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج : حرز بعبادي إلى الطور)،. العجيب أن جميع شراح الحديث اتفقوا هنا أن الطور هذه طور بيت المقدس، ولم يقل أحد منهم أنها في صحراء سيناء،. ولكن المفسرين هم الذين يختلفون ويذهبون بآرائهم ألى ترجيح ما ليس بمرجح، وما ليس عليه دليل،.
يسمى المسجد الأقصا ببيت المقدس وأرضه بالأرض المقدسة، ولها كذلك اسمٌ آخر صرح القُــرآن له كثيراً! ألا وهي الأرض المباركة،. قالَ اْللّٰه،. ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى ((الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ))..﴾ [اﻹسراء 1]،. والمكان الذي نادى الله فيه موسى،. سماه مرة بالواد المقدس،. ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ((إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ)) طُوًى﴾ [طه 12]،. ومرةً سماه،. ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ ((الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ)) مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص 30]،. فالواد المقدس، واد أيمن وبقعة مباركة،.
فهي الأرض المباركة! السؤال هنا،. هل ثمة علاقة بين البركة والتقديس؟ وما معنى البركَة؟!
معنى بَرَكَ أي ثَبَتَ،. ومنه بروك البعير، أي ثباته على الأرض، وحين تدعو لشخص بالبركة (بٰارَكَ اْللّهُ لَكَ أو بارك فِيكَ)،. أنت تدعو له بالتثبيت، وعكسها الزوال، قال رسُول اللّه ﷺ ﴿إذا رأى أحدُكم ما يُعجبُهُ في نَفسِهِ، أو مالِهِ فليبرِّكْ علَيهِ [فلْيُبَرِّكْه]¹ فإنَّ العَينَ حقٌّ﴾،.
فالأرض المقدسة هي الأرض المباركة أي : المثَبَّتة.
ولكن،. لماذا المسجد الأقصا وما حوله تحديداً نال سمة التقديس ولم يكن لمكة نصيب منها؟ ومكة أعظم منها! فهي أحق بالتثبيت منطقياً! أليست أم القرى، ومنبع الرسالة؟،.
من المعلوم من الدين أن الطعام والأمان أساسان فيه،. وأن الله استعبدنا بهما،. أي أمرنا بعبادته لأنه يطعمنا ويؤمننا،. وهذا يتبين جلياً من هذه،. ﴿...فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ الَّذِي ((أَطْعَمَهُمْ)) مِنْ جُوعٍ ((وَآمَنَهُمْ)) مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش 3 ــ 4]،. فعَرّفنا ربّنا بنفسه أنه يطعمنا ويؤمننا،.. وبناءً عليه طلب منا عبادته،. وقالَ،. ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ((آمِنَةً)) مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا ((رِزْقُهَا)) رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِــ[[ــأَنْعُمِ]] اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ ((الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)) بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل 112]،.
والعجيب أن الله جعل هذا الأمر [الطعام والأمان] على بيتين من بيوته،. جعل الأمان لمكة ﴿وَهَٰذَا الْبَلَدِ ((الْأَمِينِ))﴾ [التين 3]،. وجعل الطعام لبيت المقدس (الأرض المباركة)،.
بيت اللّٰه المُقَدّس في أرضٍ مباركة،. حيث الطعام والبركة،. من آثار البركة في هذا المكان أنها تُعطي وتُثمر دائماً وفي كل حين، صيفاً وشتاءً،. فهي أرض الزرع والطعام والنبات! ولكن ليس في هذا المكان أمان! فالحرب والقتال دائرٌ فيها دائمٌ لا يتوقف، منذ القدم وإلى يوم القيامة،.. بعكس البيت الحرام! سمي بالحرام لأن القتال فيه حرام،. ذاك حرمٌ آمن،. ﴿..أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ ((حَرَمًا آمِنًا)) يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص 57]،. لم تقربه الفيلة، ولا أبرهة،. ولم يحل القتال فيه إلا ساعة من الزمان أذن بها الله للنّبي ﷺ،.
أما الأرض المباركة،.. حيث الطعام والبركة،. الكل يقاتل لأجلها، فهي لم تهدأ يوما في التاريخ وعلى مر العصور من القتال والحروب،..
فمن القرآن،. ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا ((الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)) الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة 21 ـ 22]،. ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ((فَقَاتِلَا)) إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة 24]،.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا ((لِنَبِيٍّ)) لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ((نُقَاتِلْ)) فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ((الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)) قَالُوا وَمَا لَنَا ((أَلَّا نُقَاتِلَ)) فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ ((أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا))..﴾ [البقرة 246]،. ﴿((فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ)) دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ..﴾ [البقرة 251]،.
ومن التاريخ،. لا يخفى عليكم عدد المرات التي احتلت فيها تلك الأرض وتحررت على يد عمر بن الخطاب ثم احتلت مجدداً من قبل الحروب الصليبية وتحررت على يد صلاح الدين الأيوبي، ثم تعاود فيها القتال والاحتلال من التتار ثم التحرير على يد قطز والمماليك،. ثم تعال لتحتل اليوم مجدداً على يد الصهاينة، نسأل الله أن يردها علينا،.
ومن حروب المسقبل فيها،. نزول عيسى بقربها، ثم الدجال يُقتل هناك، ويأجوج ومأجوج هناك،. والملاحم بقربها، ومرج دابق ومعركة أرمجدون، والأحداث العظام، وكثير من علامات الساعة هناك! فتلك الأرض المباركة فيها ((الرزق والطعام)) الذي يبحث عنه كل إنسان،. وليست سيناء مصر التي ليس فيها شيء سوى الحجارة،.
الطور مربوط بسيناء،. ﴿((وَشَجَرَةࣰ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَیۡنَاۤءَ)) تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغࣲ لِّلۡـَٔاكِلِینَ﴾ [المؤمنون 20]،. وسيناء هي نفسها سينين،. ﴿((وَٱلتِّینِ وَٱلزَّیۡتُونِ وَطُورِ سِینِینَ)) وَهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِینِ﴾ [التين 1 - 3]،. والكل يعلم جيداً أن الزيتون من أشجار القدس، وزيت الزيتون منها يصدر إلى اليوم لكل العالم، هذه الشجرة من ثروات أرض البركة في القدس،. في فلسطين، وليس في سيناء مصر شجرة زيتون واحدة،.
ــــ ما معنى طور؟
الطور والأطوار والطير والطيرة في الكتاب على التبديل من حال لحال، والتغيير من تارة لتارة،.
جذرها ط و ر، طور جمعها أطوار،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾،. بداية من ماء وطين، ثم نطفة ثم علقة ثم... إلخ،. والإنسان نفسه يتغير جيلاً بعد جيل،. في خلقه وأخلاقه،. ومنه الطائر الذي يطير،. يكون على الأرض ثم يطير في السماء لا يمسكه إلا الله،. يهاجر ويتنقل بحرية، يغدو خماصاً ويروح بطاناً،. فحاله في تغير دائم،. ومنه التطيّر التي فيه من التبدّل والتغيّر من حال إلى حال،. فالطور والأطوار والطير والطيرة في الكتاب على التبديل من حال لحال، والتغيير من تارة لتارة،.
جبل الطور سمي بذلك لكونه جبل متغير،. هذا الجبل ليس كبقية الجبال،. هذا الجبل طار فوق الناس،. فيه البركة وفيه الشجر،. والشجرة،. هذا الجبل خلقنا عنده،. وسوف نحشر عنده،. هذا الجبل صارت عليه حروب منذ الأزل ولا يزال في حرب،. فالكل يعرف قيمته وقدره، والكل يحارب للوصول إليه،.
ــ الطور والخلق،.
الطور والطير لهما جذر واحد،. والسبب في تسمية الطور هو الطيران حيث أنه طار مرة فوق الناس،. ولكن هناك علاقة أخرى بين اسم هذا الجبل تحديداً وبين الخلق،.
الطور والطير،. الطير في القُــرآن كثيراً ما تجده مع الخلق وبدء الحياة،. فإبراهيم حين سأل عن سر الحياة،. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ((الطَّيْرِ)) فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ ((جَبَلٍ)) مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا..﴾،. [طير وجبل]،. وعند عيسى،. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾،. [والطين مادة الجبل]،. فكأن ثمة علاقة بالطير والحياة،. ثم نعود هنا لنجد جبلاً بنفسه اسمه مشتق من الطير [الطور]،. هذا الجبل الذي منه خلقنا جميعاً وعليه أخذ الله منا الميثاق أول الأمر حين أحيانا عليه أول مرة،.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ،. رَبَنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا،.. ﴿ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾،.
بكيبورد، محسن الغيثي،.