المحكم والمتشابه،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران 7]،.
تصحيحاً لخطئٍ شاع وانتشر منذ عهد قديم،. حول التفريق بين المحكمات والمتشابهات، وبقي الناس والأشياخ يتداولونه إلى اليوم،. بل صنفوا فيه الكتب تثبيتاً لما يظنونه حقاً وليس كذلك،.
قالوا في جملة ما قالوا أن القُــرآن فيه آياتٌ محكمة، وآيات متشابهة ليست بمحكمة،. ظناً منهم أنها كلمتان تضادان بعضهما في المعنى،. على أساسه بنوا أننا مأمورون باتباع المحكم، وأما المتشابه فهو الذي يسبب اختلاف الفهم،... الخ،. بل جعلوا من هذه الآية دليلاً على جواز الاختلاف في القُــرآن!،.
1 ــــــ القُــرآن كله محكم،. والآيات كلها محكمات،.
فتصحيحاً للمفهوم المغالط نقول،. القُــرآنُ كله محكمٌ، كله بالتمام،. كلّ آياته محكمة،. آية آية، بل لن تجد آية تستطيع وصفها بأنها غير محكمة،. بتاتاً،. (والخلاف في فهمها لا يؤثر في حُكمها وإحكامها) بل كل القُــرآن محكم،. ومعنى محكم أي،. ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ)) حَمِيدٍ﴾ [فصلت 42]،.
قالَ اْللّٰه عن القُــرآن يبين كيف أحكمه،. ﴿الر ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)) ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ ((حَكِيمٍ)) خَبِيرٍ﴾ [هود 1]،. وهذه الآية وحدها كفيلة لرد الباطل والبهتان على القُــرآن أن فيه آيات ليست محكمات،. بل آي القُــرآن كله محكم،. هن الأصل، وهن المنشأ،. هن أم الكتاب،. وليس هذا فحسب،. بل ذكر الله الحكيم أن القُــرآن حكيم،. وقال عن الكتاب بأنه حكيم،. في عدة آيات تكفي منها واحدة لمبصر يصدق كلمات ربه دون تحريفها وتحويرها،.
❒ ﴿يس ((وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ))﴾ [يس 1 ــ 2]،.
❒ ﴿ألم تِلْكَ آيَاتُ ((الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))﴾ [لقمان 2]،.
❒ ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ ((الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))﴾ [يونس 1]،.
❒ ﴿ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ ((الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ))﴾ [آل عمران 58]،.
❒ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ ((يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ)) وَاللَّهُ عَلِيمٌ ((حَكِيمٌ))﴾ [الحج 52]،. وغيرها كثير،.
فالقُـرآن كله محكم، والذكر حكيم،. أنزله الحكيم،. ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ)) حَمِيدٍ﴾ [فصلت 42]،. ﴿حم تَنْزِيلُ ((الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ))﴾ [الجاثية 1 ــ 2]،. ﴿وَكَذَٰلِكَ ((أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا)) عَرَبِيًّا...﴾[الرعد 37]،. كيف يَحكُم بين الناس، ويُحكم به بين الناس، وهو بذاته فيه آيات ليست محكمة؟! بل وَجَبَ أن يُحكَمَ هو أولاً، ثم به نحكم بين الخلائق ونحتج به ونقارع،. فليس من المنطق أن تقاتل بسلاح مهترء، وليس من العقل أن تجابه حجج خصمك بكلام ليس بقوي ولا متماسك،. كلامٌ تصفه أنت بنفسك قبل خصمك أنه مهزوز معوج قد يُفهم هكذا وقد يفهم هكذا،. (ونسبوها بهتاناً لعلي ابن أبي طالب أنه قال عن القُــرآن أنه حمال أوجه! وهو بريء من هذا القول)،. لا يتمالك نفسه،. كلامٌ فالت! حاشاه القُــرآن من هذا الوصف،. هذا ما جَلَبه البعض على كلام الله،. وإلا فما ظنك بمعنى قولك (غير محكم)؟
المحكم في العربية، هو العزيز القوي الممتنع،. المتماسك الذي يمتلك نفسه،. لا يفلت منه شيء ولا يضيع، ولا يدخل فيه شيء ليس منه،.. وعكس الإحاكم وضده في اللسان العربي هو الصبوة، أي الفالت، غير المستقر، كالصبي لا تعرف ما الذي سيقدم عليه،. ليس له قرار يحكمه،. لا يملك نفسه، يتبع شهوته وهواه حيث أخذه،. حركي،. لا يكون مسيطراً علىٰ نفسه ولا يستطيع التحكم بهواه، لهذا يقال عنه صبيٌّ،. فالصباوة عكس الإحكام،. وهذه آية عجيبة عن يحيى ﷺ؛ تبين معنى الحكمة،. وتبين الكلمة التي تضادها في المعنى،.
قال اللّه عنه،. ﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم 12 ـ 15]،. فيحيى كان مُحكماً حكيماً مسيطراً، يملك نفسه،. وهو صبي صغير،. وليس الحكم هنا الملك، فيحيى لم يكن ملكاً وهو كبير، فضلاً أن يكون ملكاً في صباه،. فضلاً أن بنوا إسرائيل لم يرتضوا ملكاً على أنفسهم كطالوت (لم يؤت سعة من المال) فهل سيقبلون ملكاً صبياً؟!
فالحكم هنا ليس ما يتبادر للفهم أنه المُلك والسيادة! بل هو من الاحكام والمنعة! وتفهمها مما يقابلها ويضادها في الآية نفسها،. ﴿..وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ((صَبِيًّا))﴾،. والصبي هو المتفلت الغير مستقر،. ولكن يحيى أوتي الحُكم، فلم يتبع شهوات الصبوة،. فلهذا يقال عن الصغير غير المتحكم: صبِيّ؛. قال يوسف،. ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ((وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ))﴾ [يوسف 33]،. قال الله عنه قبل ذلك،. ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ((ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡمࣰا)) وَعِلۡمࣰا وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف 22]
فلزم يوسفَ حكمةً من اللّه؛. حتى لا يتفلت وينساق لهواه ويصبو إليهن! فيحيى آتاه الله الحكمة من فترة صباه وصغره، ومن أجل هذا قال عنه رسُول اللّه ﷺ بسند فيه كلام،. ﴿ما من أَحَدٍ من وَلَدِ آدمَ إلا قد أخطأَ أو هَمَّ بخطيئةٍ ((ليس يحيَى بنَ زكريا))، وما ينبغي لأَحَدٍ أن يقولَ أنا خيرٌ من يونسَ بنِ مَتَّى﴾ أخرجه أحمد - 4/80،. الشطر الأخير من الْحديث عن يونس، صحيحٌ أخرجه في البخاري، دون الكلام عن يحيى،. فمن الحُكم الذي آتاه اللّه، لم يخطئ أبداً! تخيل!،. ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))،. لم يَهَم بخطيئةٍ!! يعني، حتى ما فَكَّرَ بخطيئةٍ!، وهذا من الحُكم، إحكام النفس،.
قال إبراهيم ﷺ،. ﴿رَبِّ هَبْ لِي ((حُكْمًا)) وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء 83]،. أخطأ من ظن أن إبراهيم ﷺ أراد ملكاً وسيادة، هو يظن أن الحكم هو الإدارة والملك! بينما الحكم هو الإرادة والامتناع عن الانسياق خلف الرغبات، والتحكم بالنفس مما تشتهي وتهوى، فلا تصبو لشهواتك،.
عوداً على ذي بدء،. فأنت حين تصف آيةً في كتاب الله أنها غير محكمة،. فهذا وصف منك أنها فالتة، غير مستقرة،. غير ممتنعة، ليست قوية،. يسهل إزالتها أو حذفها أو تبديلها! وهذا كله خطأ محض، لم يقل الله عن آياته أنها غير محكمة، هذا من فهم الناس المغالط لكلمة المتشابه، هو قال منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات،. فجاء الناس وقسموا الآيات قسمين،. كل قسم ينفي نعت الآخر،. فالمتشابه عندهم ينفي كونه محكماً، والمحكم عندهم ينفي كونه متشابهاً،. وهذا من سوء الفهم، وسوء المنطق والطريقة،. وسنأتي على تفصيل معنى المتشابه، وتبيان أن كل المتشابه أصلاً محكم،. ولو اختلف الناس في معانيها وتفسيراتها،.
ثم كيف يقال عن بعض آياته أنها ليست محكمة؟! ما المعيار المقياس المستخدم للحكم على الآية وتصنيفها أهي محكمة أم متشابهة؟! هل عندكم من كتابٍ فتخرجوه لنا؟! أو أثارةٍ من علم وهدى؟! هل حدد النّبي ﷺ الآيات المحكمات وفصَّل وفرق لنا لنعلم ما المحكم من القُــرآن وما المتشابه؟! لا.
اسمع ما قالوه في معرفة المحكم والمتشابه،. بغير دليل (كالعادة)،. ومن هنا يأتي الضلال والافتراء،. قالوا،... "المحكم" هو الذي ليس فيه اختلاف،. "والمتشابه" الذي يحتمل أكثر من معنى،. وفي هذه الحالة الأخيرة، يمكنك تحويل الآية المتشابهة إلى آية محكمة بتوضيح معناها، أي بربطها بآية أخرى محكمة، فيصير المتشابه محكماً!،.
يقولون بأن المحكم هو الذي ليس فيه اختلاف! بينما قالَ اْللّٰه،. ﴿..وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء 82]،. كيف جعلوا القُــرآن فيه اختلاف؟! الذي من عند الله ليس فيه اختلاف،. وطالما قيل المحكم ليس فيه اختلاف، فبالتالي القُــرآن كله محكم،.
الذي يحير فعلاً عند القوم، هو الحكم على الآية وتصنيفها أنها محكمة أو متشابهة،. (بعد) أن ينظروا فيها بأنفسهم، ويُعمِلون رأيهم وأفهامهم واجتهاداتهم الشخصية في آيات الله، (فإن) وجدوا أنفسهم قد اختلفوا فيها قضوا عليها وحكموا أنها متشابهة!! (وإن) وجدوا أنفسهم (لا سمح الله) أنهم اتفقوا في معناها قالوا أهاااا، بالتالي هذه محكمة!! هم بهذا العمل أخضعوا القُــرآن لآرائهم هم،. جعلوا القُــرآن تابعاً لهم، فرأيهم واجتهادهم (القابل للخطأ) هو من يحدد الآية أهي محكمة أم متشابهة!،. رأيهم الشخصي هو ما يحدد أي الآيات محكمة وأيها متشابهة،. وقد تختلف الآراء بينهم فتختلف أحكام الآيات فيما بينهم،. فما هو محكم عند هذا، متشابه عند ذاك! وما هو محكم اليوم، غداً يصبح غير محكم!! يا للعجب،. والأعجب من ذلك، أنهم جعلوا معرفة المحكم من المتشابه شرطاً من الشروط اللازمة الملزمة للمفسر!،. بينما هم أنفسهم مختلفون في تصنيف المحكم والمتشابه!
وللعلم،. لم يرد عن النّبي ﷺ تصنيفاً وتعييناً للآيات أيها محكمة وأيها متشابهة، ولكنهم في رَيبهم يتخبطون،. هذا يقول هذه محكمة، وغيره يقول هي متشابهة، وهذا الذي يقول اليوم هي متشابه، غداً (يعي أكثر ويستفيق من غفلته) فتصير عنده محكمة! سُبْحَانَ اللّٰه،.
وتحقيقاً وتعمقاً في المسألة،. الآيات التي سموها محكمة، أي اتفقوا في معناها، حقيقةً قد لا تكاد تُذكر، فهم في الحقيقة اختلفوا في جل القُــرآن،. وبهذا يكون القُــرآن جله عندهم متشابه! وهذا ينافي قول الله،. ﴿هن أم الكتاب﴾،. والأم الأصل،. كما قال الله ﴿فأمه هاوية﴾ أي أصله هو، نفسه، وليست أمه التي ولدته،. فلا تزر وازرة وزر أخرى،.
ثم من الذين لهم الحق بأن يَدخلوا في زمرة النظار الذين سيختلفون أو لن يختلفوا؟! من هؤلاء؟ هل قام أحد بتعيينهم؟ أم هم كل الناس؟ أم هي لتلك الفرقة دون تلك؟! من المعنيين بــ المختلفين؟!
ثم كيف لهم أن يحولوا آية كانت متشابهة وقضي الأمر وحكموا عليها أنها متشابهة، إلى آيةٍ محكمة؟ فمثلا قيل عن آية ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا..﴾ أنها متشابهة،. رغم أنها لا تحمل عدة معانٍ كما اشترطوا في تعريفهم للمتشابه،. ولكن أحدٌ ما أساء فهمها لقلة حيلته وعلمه في اللسان ولخللٍ في عربيته، أو لزيغٍ في قلبه،. فقرر بعقله أن هذه آيةٌ متشابهة! لأنها بنظره تحتمل عدة معانٍ،. ثم سعى جاهداً لتحويلها وإدخالها في زمرة المحكمات!
لحظة،. ألم يقل أنها آية متشابهة؟ وحكم أنها متشابهة؟! فماذا يفعل؟ لماذا ينبّش حولَها يريد تحويلها إلى آية محكمة؟! أهو بالمزاج؟ يقلب آية متشابهة لآية محكمة؟! إن كان هذا ممكنا فبالتالي يستطيعون أن يحولوا كل المتشابهات إلى محكمات،. فتزول خصلة المتشابهات عن الآيات، تصير كلها محكمات!،.
أليس من المفترض طالما هي متشابهة أن يسلم للّٰه ويستريح؟،. أيها المصنّف للآيات،. طالما كنت تنوى تحليلها وتفصيلها لجعلها محكمة!،. فلا تحكم من الأول بأنها متشابهة، لا تلعب بالآية، مرة تسميها متشابهة، ومرة محكمة،. ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ ((مُخْتَلِفٍ)) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ ((الْخَرَّاصُونَ))﴾ [الذاريات 8 ــ 10]،.
2 ــــــــ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ،.....
إن كان القرآن كله محكم،. إذاً فما معنى أن فيه آيات محكمات وأخر متشابهة؟!
في الحقيقة، كلمة متشابهة ليست ضداً وعكساً لكلمة محكمة بل ضد الإحكام الصبوة كما بيننا آنفاً،. أما كلمة متشابه، فهي نعتة خاصة لبعض آيات القُــرآن التي تتشابه،. أي تتكرر وتُثنى في عدة مواضع،. فهي متشابهة،. متشابهة في السياق، متشابهة في الموضوع، متشابهة في الدلالة، باختلافٍ في كلماتها،. وهذه خصلة بعض آيات القُــرآن، الآيات المتشابهة جمعت بين المحكم والمتشابه، فكونها آية متشابهة، لا ينفي عنها الإحكام أبداً فهي ليست ضدها في المعنى،. والقُــرآن كله محكمٌ كما سبق بالبينات،. كل آية في القُــرآن محكمة،. وفيه آيات تشبه بعضها، كلها محكمة، وبعض منها آيات محكمة متشابهة،.
كلمة (متشابه) واضحة لا تحتاج لشرح، يعرفها كل عربي، هي من التشابه أو التثنية أو التكرار،. قالَ اْللّٰه،. ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ((كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)) تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر 23]،. تلاحظ أن كلمة متشابه ذكرها الله جنباً لجنب مع كلمة مثاني،. لتفهم أنت أيها القارئ أن هذه وتلك لهما نفس المعنى،. ويؤديان نفس الغرض،. فالمثاني أي التثنية والتكرار للآيات، تجعلها متشابهة،. متكررة،. لها مثيلاتها في القُــرآن وكل آية منها تفسر لك اختها،. وهذا المتشابه،.
قال الله،. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا ((مِنَ الْمَثَانِي)) وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر 87]،. وقد قال النّبي ﷺ عن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينْ،. ﻫﻲ اﻟﺴﺒﻊ اﻟﻤﺜﺎﻧﻲ ﻭاﻟﻘﺮﺁﻥ اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺬﻱ ﺃﻭﺗﻴﺘﻪ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺪاﺭﻣﻲ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﺃﺑﻮ ﺩاﻭﺩ، ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﺔ، ﻭاﻟﻨﺴﺎﺋﻲ، ﻭاﺑﻦ ﺧﺰﻳﻤﺔ،. سميت أم الكتاب السبع المثاني لكثرة تثنيتها وقراءتها،. فهي تتكرر دائماً،.
وسمة التشابه لا تنفي سمة الإحكام،. مثال ذلك، رجل يقول لك (لي عشرون بنتاً، فاخطب منهن ما شئت،. كلهن بناتي من صلبي،. بعضهم أجمل من بعض وبعضهم يشبهن بعضاً)،. فلو وجدت بنتين تتشابهن، هل هذا سينفي كلمته التي تفيد الإحكام؟ (كلهن بناتي من صلبي)،. لا،. فهن بناته، وفي نفس الوقت يشبهن بعضهن،. فالبنتين المتشابهتين من بناته جمعن بين السمتين (محكمات ومتشابهات) دون أن تنفي إحداها الاخرى،. ولكن البعض فهم كلمة متشابهات بالمقلوب،.
3 ــــــ من أين أتى سوء الفهم لكلمة (متشابهات)؟!
هذا الفهم المغالط لكلمة متشابهات،. أتى بسبب الخلط بين كلمة (متشابهات)، وكلمة (مشتبهات)،. فالذين أقروا بالتعريف الشائع للتفرقة بين المحكمات والمتشابهات أنه بسبب الاختلاف،. ظنوا بأن كلمة متشابهات تعني مشتبهات! وهذا الخلط من أعجب العجب،. وهذا يدل على ضعف في اللسان، وتخبط، وسوء فهم،. كيف خلطوا بين هذه وتلك؟!
جعلوا المتشابهات مشتبهات؟! أي شبهات! ثم ربطوها بحديث النّبي ﷺ أن المشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، وأن الأولى اتقاؤها وتركها لسلامة الدين! تبعا لحديث النّبي ﷺ ﴿((ﺇﻥ اﻟﺤﻼﻝ ﺑﻴﻦ، ﻭاﻟﺤﺮاﻡ ﺑﻴﻦ، ﻭﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﺸﺘﺒﻬﺎﺕ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ))، ﻓﻤﻦ اﺗﻘﻰ اﻟﺸﺒﻬﺎﺕ اﺳﺘﺒﺮﺃ ﻓﻴﻪ ﻟﺪﻳﻨﻪ ﻭﻋﺮﺿﻪ، ﻭﻣﻦ ﻭاﻗﻌﻬﺎ ﻭاﻗﻊ اﻟﺤﺮاﻡ، ﻛﺎﻟﺮاﻋﻲ ﻳﺮﻋﻰ ﺣﻮﻝ اﻟﺤﻤﻰ ﻳﻮﺷﻚ ﺃﻥ ﻳﺮﺗﻊ ﻓﻴﻪ،....﴾ وفي رواية ﴿ﺣﻼﻝ ﺑﻴﻦ ﻭﺣﺮاﻡ ﺑﻴﻦ ((ﻭﺷﺒﻬﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺫﻟﻚ)) ﻓﻤﻦ ﺗﺮﻙ ﻣﺎ اﺷﺘﺒﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻹﺛﻢ ﻛﺎﻥ ﻟﻤﺎ اﺳﺘﺒﺎﻥ ﻟﻪ ﺃﺗﺮﻙ ﻭﻣﻦ اﺟﺘﺮﺃ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ ﺃﻭﺷﻚ ﺃﻥ ﻳﻮاﻗﻊ اﻟﺤﺮاﻡ.....﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ اﻟﺤﻤﻴﺪﻱ، ﻭﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺪاﺭﻣﻲ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، ﻭﺃﺑﻮ ﺩاﻭﺩ، ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﺔ، ﻭاﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻭاﻟﻨﺴﺎﺋﻲ.
أولا،. الرَّسـوْل ﷺ يتكلم عن الحرام والحلال، ليس عن آيات القُــرآن،. ثانيا،. الرَّسوْل ﷺ يتكلم عن الشبهات، وليس عن المتشابهات،. والفرق كبير بين الكلمتين،. التشابه لا يعني الشبهة! قد تشترك في بعض الحروف، ولكن هذه كلمة مختلفة في اللفظ والمعنى والدلالة،. تلك التي تحذرها وتنئى عنها هي الشُبُهات وليست المتشابهات،. والتي تكلم الله عنها هي المتشابهات،. أي أن هذه تشبه تلك،. ليست الشبهة التي تخلط عليك دينك وتجعلك تشك في ربك،. فلا تعلم أي تذهب وأي جدارٍ تنطح،.
وحين صنف بعض القدماء كتب المتشابه، صنفوه على هذا الفهم السليم، أنها متشابهة وليست شبهات!،. وهذه بعض الكتب التي تكلمت عن الآيات المتشابهة في القُــرآن،. من عناوينها تعرف محتواها،. وبقراءتها تتيقن أنهم يقصدون التشابه فعلاً، ولا يقصدون الشبهة والشك،.
1 . المتشابه في القرآن¹، لعلي بن حمزة الكسائي (ت 189هـ) .
2 . متشابه القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 209هـ) .
3 . متشابه القرآن، لبشر بن المعتمر (ت 210هـ) .
4 . متشابه القرآن، لمحمد بن الهذيل العلاف (ت 253هـ ) .
5 . متشابه القرآن، لجعفر بن حرب (ت 236هـ) .
6 . متشابه القرآن، لأحمد بن جعفر (ابن المنادي) (ت 256هـ) .
7 . متشابه القرآن، لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ) .
¹اختلف ﻋﻨﻮاﻥ اﻟﻜﺘﺎﺏ من مطبعة لأخرى،. إلا ﺃﻥ النسخ ﻛﻠﻬﺎ اﺗﻔﻘﺖ ﻋﻠﻰ (اﻟﻤﺘﺸﺎﺑﻪ)، ﻭﺇﻥ ﻭﺭﺩ ﺫﻟﻚ ﺑﺄﻟﻔﺎﻅ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻓﻨﺴﺨﺔ ﺑﺎﺭﻳﺲ ﺑﻌﻨﻮاﻥ: (اﻟﻤﺸﺘﺒﻪ ﻓﻲ اﻟﻘﺮﺁﻥ)، ﻭﻧﺴﺨﺔ اسطنبول ﺑﻌﻨﻮاﻥ (ﻣﺸﺘﺒﻬﺎﺕ اﻟﻘﺮﺁﻥ)، ﻭﻧﺴﺨﺔ ﺩاﺭ اﻟﻜﺘﺐ ﺑﻌﻨﻮاﻥ (ﻣﺎ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻟﻔﺎﻅ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺗﻨﺎﻇﺮ ﻣﻦ ﻛﻠﻤﺎﺕ اﻟﻔﺮﻗﺎﻥ)،. تلاحظ أن نسخة استانبول خلطت بين المتشابه والمشتبه وظنت أن هذه تلك، واللوم ليس عليهم، بل على الذين قالوا بأن في القُــرآن آيات شبهات! ولكن بقراءة محتوى هذه الكتب يتبين لك ما كان يقصده مؤلف الكتاب، هل قصد التشابه أم الشبهة؟!
كانت تلك بعض الأمثلة من الكتب،. ويوجد غيرها الكثير من مؤلفات حديثة نسبياً أو معاصرة،. اقرأ محتواها لتعرف كيف فهموا كلمة (متشابهات)،. وفيم استخدموها،. ستجد أن كل ما فعلوه هو جمع الآيات المتشابهة في مكان واحد، ليسهل على طالب العلم جمع القُــرآن ومعرفة الفروقات بين الآيات،. ومواقعها في السور،. فمثلاً في كتاب الكسائي تجد أنه ﺑﺪﺃ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺑﻤﻘﺪﻣﺔٍ ﺃﺷﺎﺭ ﻓﻴﻬﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﺪﻭاﻓﻊ اﻟﺘﻲ ﺣﻤﻠﺘﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ، ﻭﻫﻲ ((اﻟﻤﻌﻮﻧﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﻔﻆ اﻟﻘﺮﺁﻥ اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺗﺜﺒﻴﺘﻪ)) ﻭﺫﻛﺮ اﻟﺸﻴﺦ ﺃﻧﻪ اﺳﺘﻘﺼﻰ ﻣﻮاﺿﻊ اﻟﻤﺘﺸﺎﺑﻪ ﻓﻲ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻛﻲ ﻳﻜﻮﻥ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﻛﺎﻓﻴﺎً ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺒﺎﺏ، ﻭﻳﻐﻨﻲ عن غيره،. وبعضهم اجتهد وذكر شروحات وأسباب اختلاف الألفاظ بين الآيات،. الشاهد أن جميعهم حين تكلم عن المتشابه في القُــرآن، قصدَ التشابه بين الآيات، ولم يقصد البتة الشُّبُهات أو اختلاف معانيها،. ولم يقل أحد منهم أن هذه الآيات ليست محكمة!
فالآيات المتشابهة هي الآيات التي لها مثاني، أي تتكرر، ويدخل في ذلك اختلاف القراءات فهي كذلك مثاني ومتشابهات،. وهذا نعت لا يخالف ولا يضاد النعت الآخر (المحكم)،. ولكن كلمة محكم أعم وأشمل، فالقُـرآن كله محكم وليس كله متشابه، وهذا مصداق قول الله،. ﴿..منْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ..﴾،. والأم الأصل والمنشأ والأول،. فحين يقول عن الآيات أنهن أم الكتاب، أي أصل الكتاب،. ومنشأه وأوله،. فهل تملك أن تستخرج منها آيةً وتقول هذه ليست من أصل الكتاب! هل تملك ذلك؟،. لا بالتأكيد،. كل الآيات من أصل الكتاب، هن أم الكتاب، كلها محكمة كما ذكر الله في عدة آيات،. وبعض آيات الكتاب فيها تشابه وتثنية،. وهذه ليست على عكس تلك،. وكلمة (وأخر)،. لا تعني الأخريات، من غير الأم والأصل بل منها وفيها،. كما أن كلمة (منه آيات) ليست من التبعيضية بل البيانية،.
(من) التبعيضية و (من) البيانية،.
قد يشتبه على البعض قول الله عن الكتاب أن ((منه)) آيات محكمات،. ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ((مِنْهُ)) آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..﴾،. فقال هذه بينة أن ليس الكتاب كله آيات محكمات، بل منه، وبعضه، وليست كله،. وقوله هذا يناقض قول الله عن الكتاب كذلك،. ﴿الر ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)) ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ ((حَكِيمٍ)) خَبِيرٍ﴾،. وكلمة (من) لا تفيد التبعيض بالضرورة، فليست دائماً على معنىً واحد ثابت، ولكنه متغير المعنى، والسياق يبينه، والآيات الأخرى تبيه،. فتكون أحيانا تحديداً وتبياناً لشيءٍ معين،. كأن تقول أكلت من هذا الطعام،. وأحياناً تكون تبعيضية كأن تقول الطعام وفير، منه البارد ومنه الساخن،.
أمثلة من القُــرآن، على "من" التبعيضية،.
﴿وَنُنَزِّلُ ((مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ)) مَا هُوَ شِفَاۤءࣱ وَرَحۡمَةࣱ..﴾ [اﻹسراء 82]
﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا ((مِّنَ ٱلۡجِنِّ)) یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ..﴾ [اﻷحقاف 29]
﴿وَلۡتَكُن ((مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ)) یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ..﴾ [آل عمران 104]
وهذه الآية مثلاً، فيها "من" التبعيضية و"من" البيانية،. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ ((مِنَ)) الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [بيانية] ((مِنْ)) قَبْلِكُمْ [بيانية] ((وَمِنَ)) الَّذِينَ أَشْرَكُوا [بيانية] أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ ((مِنْ)) عَزْمِ الْأُمُورِ [تبعيضية]﴾ [آل عمران 186]،.
ظن الناس خطأً أنه المحكم والمتشابه تضادان بعضهما،. ثم بنوا عليه أمرٌ جلل، جعل الناس تَذَرُ كثيراً من آيات القُــرآن ولا تحتج بها بدعوى أن هذه ليست محكمة، هذه من المتشابه!! وهذه بمجرد أننا اختلفنا فيها فهي غير محكمة! وهذه صعبة الفهم فهي غير محكمة،. وبهذا يصبح القُــرآن ذو عوج، ضعيف الاحتجاج،. ويسهل رده بدعوى هذه ليست محكمة!! ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا))﴾ [الكهف 1]،. وقال،. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا ((غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر 28]،.
ولا يملك إنسان أن يقرر ما المحكم وما والمتشابه (على هذا الفهم الخاطئ)،.
ولكن لو آمنت بما قال الله أنه كله محكم، يستقيم أمرك، ويصلح احتجاجك ويقوى سلطانك،. وهذا معنى أن نؤمن به كله، كله من عند الله،. ﴿...وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران 7]،.
4 ــــــ مذمة الذين يتبعون ما تشابه منه،.
﴿..فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ...﴾ [آل عمران 7]،.
كيف يُفهم الذم للذين يتبعون ما تشابه منه؟!
ذم الله هؤلاء لسببين ذكرهما في الآية، السبب الأول هو ابتغاء الفتنة،. وابتغاء التأويل،. والتأويل إنزال الكلام على الواقع،. وإيقاع الآية على حدث ما،.
إن أخذت آيةً من القُــرآن متشابهة (أي لها آيات شبيهات)،. ثم جئت تفسرها بمعزلٍ عن أخواتها فستُفتن، وتتخبطت،. وستوقعها في غير محلها، وستفهمها على غير ما أنزلت، ليس تبعاً للقُـرآن وما أراد الله من كلامه، ولن تصل لعلمها إلا بجمعها مع أخواتها المتشابهة في القُــرآن لتعرف معناها،.
لا تأخذ آية لها شبيهات ومثاني في القُــرآن دون النظر لشبيهاتها ومثانيها، فالقُـرآن يفسر بعضه بعضاً، ولا يفسر بالرأي،. فلا يمكنك فهم آية حتى تأتي بتفسير الله لها، تفسير الله يكون من شبيهاتها في القُــرآن نفسه، فكلام الله يفسر كلام الله،. ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ ((تَفْسِيرًا))﴾ [الفرقان 33]،. ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ ((عَلَيْنَا بَيَانَهُ))﴾ [القيامة 17 ــ 19]،.
مثال ذلك،. يأتي إنسان فيأخذ آية،. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ ((قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)) إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل 43]،. فيقول هذا القُــرآن يأمرنا سؤال العلماء وأهل الاختصاص،. هو بهذا مفتون، لأنه لم يرجع للمتشابهات وينظر فيها ليعلم من هم أهل الذكر،. ولو أن سياق الآية نفسها كان كفيلا بمعرفة ذلك،. ولكن لو نظرنا لآيات أخرى شبيهة بها،. سنفهمها مباشرة، وسنرى كيف يتوافق القُــرآن بعضه مع بعضه، فما وجدته هنا ستجد هناك،. آية آخرى شبيهة بها قد بينتها،. هذه الآية من المتشابهات،. قد تكررت الآية نفسها كذلك في سورة الأنبياء تماماً،. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا ((قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)) إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [اﻷنبياء 7]،. وغيرها من شبيهاتها كذلك قول الله،. ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ((فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)) لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس 94]،. وكذلك من شبيهاتها قول الله،. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا ((مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)) مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ ((مِنْ قَبْلِهِمْ)) وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف 109]،.
الآن، وبعد جمع الآية مع متشابهاتها في القُــرآن،. ستعرف مباشرةً ما معنى (أهل الذكر) التي وردت في الآية الأولى ليست في العلماء وأهل الاختصاص كما قالوا،. بل هم أهل الكتاب قبلنا،. أما لو اتبعت الآية لوحدها وهي من المتشابه،. فستفهم بشكل مغالط أن الله يعني اسألوا العلماء!
ذاك مثال على اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة،. أما اتباع المتشابه ابتغاء التأويل،. (إنزال الآية على الواقع)،. كمثل قول بعض المفسرين أن ذو القرنين هو الاسكندر المقدوني، وفرعون هو رمسيس الثاني وقوم تبع هم قوم الملك الحميري أسعد بن ملكيكرب!،. وفلان هو بلعام بن باعوراء الذي يعرف اسم الله الأعظم!
ومن أمثلة اتباع المتشابه ابتغاء التأويل والفتنة معاً،. هو ما يفعله كثيرٌ من المكفرين بكلمة (الطاغوت)،. ينزلونها على أمراء المسلمين وبالتالي تكفيرهم وتكفير من يعمل معهم ويطيعهم جميعاً، وليس هذا محل تصحيح خطئهم الشنيع هذا،. بل لبيان أنهم اخذوا كلمة من القُــرآن واستنزلوها على الواقع،. وهذا تأويل،. فوقعوا في المحظور الذي هو تكفير المسلمين،. كلمة طاغوت وردت في القُــرآن كثيراً، فهي بلا شك من المتشابهات المثاني،. فحين تستدل بآية واحد أو آيتين منهن دون النظر لبقية الآيات فلا شك ستفتن،. ولن تعلم معناها، حتى تجمعها مع أخواتها،.
وأسوء المؤولين هم الذين أتوا على واقعٍ مكذوب وخرافة وشائعة منتشرة وخرص وكذب، وأسقطوا عليه آيةً لم يعوها ولم يفهموها، أو فهموها بالمقلوب،. هؤلاء هم علماء الازعاج العلمي، فهم لم يقصروا في تأويل الآيات،. تجدهم ينظرون للواقع أولاً، ثم يبحثون عن آية تطابقها من القُــرآن (تركب عليها)،. فيُنزلون الآية عليها،. مثال ذلك قالوا أن الثقب الأسود هو ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ [التكوير 16]،. وهو كذلك،. ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير 2]! وقالوا أن نظرية التطور الدارويني قد ذكرت في القُــرآن (وقد خلقكم أطوارا) (والله أنبتكم من الأرض نباتا)،. وقالوا عن السديم (وردةً كالدهان)،.
كل تلك الأمور خرافات وخيالات من الشياطين نشرها أتباعه، ولكن الاعجازيون صدقوها، ثم استنزلوا عليها آيات لا دخل لها بمسائلهم،. وهذا أسوء أنواع التأويل،.
5 ــــ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ،...
أخذك لآية لها مثيلات متشابهة، دون النظر في بقية الآيات المتشابهة، يلجؤك لإنزالها على الواقع في رأيك أنت،. لكن لا،. لا أحد يعلم التأويل إلا الله، فعليك بالنظر لبقية المتشابهات لتعلم حقيقة ومعنى كلام الله،. بهذا لن تخرج عن القُــرآن بكلمة لم يقلها الله،. ولا بفهم جديد، فأنت تأخذ بقول الله هنا، وقوله الآخر هناك،. فهذه تفسر تلك،. أما متى ستنزل على أرض الواقع، فالعلم عند الله وحده،. حتى الراسخون في العلم لا يعلمون متى،. ولا يعلمون فيمن هي بالتحديد،. فالعلم كله عند الله وحده،.
روي عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها أنَّها قالت في قولهِ تعالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، انتهَى علمُهم إلى أنْ آمَنوا بمتشابهِهِ ((ولم يعلَموا تأويلَهُ)). أخرجه ابن حجر العسقلاني في موافقة الخبر الخبر 1/53 بإسنادٍ صحيح.
ثم؛ من ذا العالم الذي "يدَّعِي ويزعم" أنه يعلم علم التأويل كما يعلمه اللّه؟!! علم التأويل أي علم متى يقع، وأين وفيمن! وكلها في المستقبل،. فهذه أمور غيبية لا يعلمها البشر،. لا يعلمها إلا الله،. وقد بينّا ذلك في الجزء الأول بالبينات،. مروراً على جميع كلمات "التأويل" في القُــرآن،.
6 ـــــــ قالوا بأن الراسخون في العلم يعلمون التأويل!،.
استدلوا لذلك بقول الله،. ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ..﴾ [آل عمران 7]
أتى بعض ﴿..الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ..﴾،. من المفتونين وأتباع الأحزاب والفرق، وقرأها بهواه، واستدل بها على أن الله اختص بعلمه العلماء دون غيرهم من الناس وأنهم يعلمون التأويل الذي يعلمه الله بحجة أن الله قال ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) زعما منهم أن واو العطف تعود على ((الله)) و ((الراسخون في العلم)) معاً!!
أما تأويل الآيات (أي ردها لأصلها الأول) قال الله عنها ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه..﴾،. وأما الراسخون فليس لهم إلا أن يقولوا،. ﴿..آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا..﴾،.
والحق أن واو العطف جاءت بين جملتين وليست بين فاعلين؛ فعندنا فعلين لفاعلين، وجملتين وبينهما حرف عطف يربط بينهما والجملتان فيهما فعلين لا فعل واحد!،. قال الله ﴿وَمَا [[يَعْلَمُ]] تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ((و)) الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [[يَقُولُونَ]] آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾
الفعل الأول ((يعلم)) والفعل الثاني ((يقولون))،. والآية لم تنتهي عند كلمة العلم ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي ((الْعِلْمِ))﴾!
فلو كانت هكذا لقلنا أن الواو يعطف بين الفاعلين ((الله)) و ((الراسخون في العلم)) لفعل واحد وهو ((يعلم))،. وحتى لا يختلط علىٰ أحد الفهم أثناء تلاوة الآية،. فليسكت سكتة يسيرة أو يقف بعد اسم الله وقفة يسيرة! ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه..﴾؛ ثم يكمل ﴿..وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا..﴾
ستستبين هكذا أن هذه جملة، وتلك جملة! وإن قرأها بالوصل فلا يقف عند كلمة ﴿الْعِلْم﴾ فيجعلها جملة واحدة ويحذف منها الفعل ﴿يَقُولُونَ﴾!،. فتصير ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ..﴾! وهذا خطأ، يوحي إليك أنهم سواء في علم التأويل!
ﻋﻦ اﻟﻘﺎﺳﻢ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻗﺎﻟﺖ ﴿ﺗﻼ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻫﺬﻩ اﻵﻳﺔ {ﻫﻮ اﻟﺬﻱ ﺃﻧﺰﻝ ﻋﻠﻴﻚ اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻨﻪ ﺁﻳﺎﺕ ﻣﺤﻜﻤﺎﺕ ﻫﻦ ﺃﻡ اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺃﺧﺮ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺎﺕ ﻓﺄﻣﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﺯﻳﻎ ﻓﻴﺘﺒﻌﻮﻥ ﻣﺎ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻣﻨﻪ اﺑﺘﻐﺎء اﻟﻔﺘﻨﺔ ﻭاﺑﺘﻐﺎء ﺗﺄﻭﻳﻠﻪ} ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ {ﺃﻭﻟﻮا اﻷﻟﺒﺎﺏ} ﻗﺎﻟﺖ ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﺈﺫا ﺭﺃﻳﺖ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺒﻌﻮﻥ ﻣﺎ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻣﻨﻪ، ﻓﺄﻭﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ((ﺳﻤﻰ اﻟﻠﻪ))، ﻓﺎﺣﺬﺭﻭﻫﻢ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺪاﺭﻣﻲ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، ﻭﺃﺑﻮ ﺩاﻭﺩ، ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﺔ، ﻭاﻟﺘﺮﻣﺬﻱ.
7 ــــــ مقولة "القُــرآن حمال أوجه"،.
اللّٰه المستعان ولْاحَوْلَ ولاْ قُوّةَ إِلاّ بِاْللّٰه،. هذه المقولة قد اشتهرت بين علماء المسلمين وعامتهم، وانتشرت "وتلقتها الأمة بالقبول والرضا والحفاوة"،. وهذا فعلاً مما يحزن ويفطر القلب،. فكيف يُقبل قولٌ كهذا على القُــرآن؟ وكيف رضي العلماء بهذا القول دون أو يوزنوه بالقرآن وبكلام النّبي ﷺ؟،. رغم كثرة تناقضاتهم التي أتهموا بالقرآن بها ثم محاولاتهم لفك الشبهات فيها والتوفيق بين أضدادهم التي اكتشفتها عقولهم القاصرة،. ألم يلاحظوا هذا التناقض الكبير بين هذه المقولة وبين آيات القُــرآن الدالة القاطعة الواضحة المبينة أن القُــرآن ليس (بحمال أوجه)؟! أمن فرط الجهل أم هو الخذلان والعمى؟! هذه المقولة الشيطانية الخبيثة مردودة لعدة أسباب،.
أولاً،. هذا ليس بحديثٍ ولا آية، فليست بحجةٍ حتى يُحتج بها،. هذا قولٌ منسوبٌ لعلي بن أبي طالب،. وبعضهم ينسبها لابن عباس،. ومن الغبن أن يضيع الإنسان من عمره ليبحث عن صحة قولٍ ليس بوحي،. قالَ اْللّٰه،. ﴿((رُسُلًا)) مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ ((حُجَّةٌ بَعْدَ الــرُّسُلِ))..﴾ [النساء 165]،. ثم إن كان الحديث الضعيف يُترك وهو عن النّبي ﷺ،. فكيف برواية مسنودة عن غير نبي؟! وإن كان الانجيل والتوراة تُهمل وهي من الله،. فكيف برواية ليس لها أصل؟
ثانياً،. هذه الرواية ليس لها أصلٌ ولا مصدرٌ تستطيع الوقوف عليه للتحقيق والنظر،. كل ما فيه أنه ذُكر بسند مقطوع في كتاب "الإتقان في علوم القُــرآن" للسيوطي وعزاه لابن سعد في "الطبقات" ج1/ص409 إلى ص417، ومرة عزاه في كتابه "الدر المنثور" ج1/ص40 ،. كذلك بسند مقطوع،. أما الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) ج1/ص560 فقد أتى بسند واه جداً جداً ونسب القول في نهايته لابن عباس بدلاً عن علي بن أبي طالب،. وهو كالتالي قال (أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن محسن التنوخي [مجهول] أنبأنا أبو سعيد الحسن بن جعفر السمسار [ضعيف] حدثنا أبو شعيب الحراني [ثقة] حدثني يحيى بن عبد الله البابلتي [ضعيف] حدثنا الأوزاعي قال "خاصم نفر من أهل الأهواء علي بن أبي طالب فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن إن القرآن ذلول، حمول ذو وجوه، تقول ويقولون، خاصمهم بالسنة، فإنهم لا يستطيعون أن يكذبوا على السنة)،. ومن استطاع استخراج سند الروايات السابقة فليفعل، ولن تُقبل منه أصلاً ولو صح سندها عن الصحابي، لأنها ليست بحديث، وعند أهل الحديث هذا يُصنف ويندرج تحت الحديث الضعيف المعلول "علته الوقف"،.
ثالثاً،. هل تعلم ما المستفاد من هذه المقولة؟! هذه المقولة تعني بكل صراحة (اتركوا القُــرآن)،. (لا تحتجوا بالقرآن)،. (القُــرآن لا يصلح للاحتجاج)،. وهذا ما يريده الشيطان،. فلا تمر مناسبة ولا فرصة، إلا وقد ذكروها في معرض احتجاجهم بها، لإبعاد الخصم عن القُــرآن،. وتجاهله وتجنبه وتنحيه، وعلى أساس أنهم إذ قالوا بأن علياً هو قائلها،. فلا مساس ولا رد، ولا اعتراض، "ويفرح بها النذل"،. هو من تحقيره للقُــرآن، أو لخشيته من دلالة القُــرآن يريدك ألا تذكره بآية ولا تعرض عليه قول الله،. ولكن يخشى أن يقال له:- أترد القُــرآن؟! أتجحد بآيات الله؟! فحتى يتجنب هذا، يقول قال علي رَضِيَ اللّٰه عَنْهُ،.. وقال ابن عباس رَضِيَ اللّٰه عَنْهُ،. يرميها على هؤلاء، فيُربط لسان خصمه،.. فكيف سيعترض على قول الصحابة؟ والصحابة من هذا القول الشنيع برآء،. كلا الخصمين جاهل جهول،. الشيخ العلامة النذل المستدل بها، والتقي الورع الخائف المتقبل لها كحجة عليه للتوقف عن الاستدلال بالقرآن،. كيف قَبِلها المخذول؟!،. إن رفضوا استدلالك بالقرآن،. فهل تظن أنهم سيقبلون استدلالك بالحديث؟!
رابعاً،. من الغباء الزعم بأن القُــرآن حمال أوجه، أما الحديث فليس حمال أوجه!،. هذا حمقٌ،. وقائله مغَفَّل،. لا تدري هل بقوله هذا يحُط ويذم القُــرآن ولا يعطيه قيمةً ولا وزناً، أم أنه يحاول مدح السنة ويوهم أن السـنة أرفع وأوضح وأنقى وأصح وأقوى احتجاجاً من القُــرآن؟!
خامساً،. ما يمنع الذي يرد القُــرآن، من رد الحديث كذلك؟! أتظن أنه الورع والخشية من كلام الرَّسـوْل ﷺ؟! إنه لأمر مضحك،. رجل يحرف الآيات، لا يقبلها، يفسرها على (وجه آخر)،. ليتهرب منها، ويتخلص من وعيدها، والكلام كلام الرب الذي أوحى هذا القُــرآن وأوحى للنّبي ﷺ بمثله،. هل يمنعه شيء من فعل ذلك مع الحديث أيضاً؟! إن كان الحديث عنده وحيٌ من الله للرّسول ﷺ،. وهو مساوٍ للقُـرآن،. فحاله حاله القُــرآن،. (يعني عنده هو حمال أوجه كذلك)،. وإن كان الحديث عنده بمنزلةٍ أدنى من القُــرآن ولو بشعرة،. فالأمر أهون عليه أن يرده لذات السبب (يُحمل على عدة أوجه)،. فمن قال بأن الاستدلال بالسنة أوجب وأشد وقعاً ودلالةً من القُــرآن؟ إلا أحمقٌ غبي يقول مالا يعلم؟،. فحاشاه أن يكون عليا أو ابن عباس،. هذه المقولة مقولة شيطان،. المراد منها : اتركوا الاحتجاج بالقُــرآن،. وقد حصل له ما أراد،. وكمثال، شاهد هذا المقطع "مدته دقيقة"،.
https://youtu.be/swG8qiG8kLQ
سادساً،. إن عبارة (القُــرآن حمال أوجه) تعني بأنه لا يمكن للقُـرآن أن يحسم قضيةٍ مُنازعٌ عليها،. وهذا يبطُل الآية،. ﴿..فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ((اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء 59]،. فالقُـرآن عندهم حمال أوجه،. مما يعني، حتى لو رددنا النزاع للّٰه والرَّسوْل ﷺ،. لن يفيدنا هذا بشيء،. ولن ننفك عن نزاعنا،. فالقُـرآن حمال أوجه،. وسيبقى النزاع،.
ــ القرآن يُستدل به،. هو يدلنا على الهدى والحق، كيف لو قال شخص هذا الدليل يُحتمل، يحمل حامله وجهين مختلفين؟! لن يكون هذا دليلاً، سيكون من حمله هو الذي يحكمه ويتصرف فيه ويوجهه حيث يشاء،. ينبغي بالدليل أن يكون بذاته قاطعاً، ينتهي الخلاف عنده،. لا أن يكون هشاً حَمَّال أوجه! تارةً يعني كذا وتارةً يعني خلافه! هذا ليس بدليل،. كأن يتخذ أحدنا شخصاً دليلاً في سفره يوجهه ويدله على الطريق وعليه يكون المعتمد،. وكان هذا الشخص يتوه كثيراً، لا يدري يذهب شمالا أو يميناً، وتارة يتردد، وتارة يتراجع! هل سيكون هذا دليلاً قاطعاً؟ أم هزيلاً مشكوكاً فيه وفي قدرته على الحسم والهداية! وهل يُعتبر هذا دليلاً؟ لا،. فلا يصلح أن يكون الدليل إلا الذي ينتهي عنده الكلام،. نقطة،.
سابعاً،. إن كان القرآن ذو أوجه،. فكل فرقة ستستدل لنفسها بالآية ذاتها التي تستدل بها الفرقة الأخرى لنفسها،. إن كان القُــرآن حمال أوجه،. فكل آياتها مرنة مطاطة تحمل عدة معان، فيها معان ظاهرة ومعان باطنة، فيمكن لآية التحريم هذه أن تدل على التحريم في وجه من أوجهها، وتدل كذلك على الإباحة بوجه آخر وأن لا بأس بها، ولو في أزمان مختلفة،. ويمكن لآية التحذير تلك أن تدل على النذارة تارة، وكذلك تدل على البشارة تارةً أخرى،. والشياطين تدل على ملائكة،. والجن رسل،. والظلمات نور،. فالقُـرآن حمال أوجه،. ولا بأس أن تحمل الكلمة معناها وضد معناها،.. يا فرحة المستشرقين والعلمانيين والحداثيين،.
ــ هذه المقولة (القُــرآن حمال أوجه) مقولة عامة تشمل كل القُــرآن،. ولكن بعض الناس الغيورين، أحسوا بأن فيها ثمة خطأ ولا يصلح معها التعميم والإطلاق، فقيدوها، وخصصوها على استحياء أن يشار إليهم بالبنان أنهم مخالفون للصحابة،. فقالوا الذي يحتمل عدة أوجه هو المتشابه من القُــرآن فقط، وإلا فالمحكم من القُــرآن لا يمكن أن يحتمل عدة أوجه،.
قلت : يقول المثل الانجليزي،. Two wrongs don't make a right,. جاء يكحلها فعماها،. فحتى يصحح الخطأ، نقلك على خطئٍ آخر،. وقد رددنا على هذه النقطة آنفاً في هذا المقال (المحكم والمتشابه) ولكن نقول بإيجاز،. ومن يقرر هذه آيةٌ محكمة وهذه متشابهة (على التعريف البدعي)؟! فلو جئت تستدل بآية هي عندك محكمة، سيقول خصمك هذه آية متشابهة، والسبب أن لها عندي وجهان! وهذا تعريفك أنت للمتشابه،. فوجب تصحيح المفهومين،. أن القُــرآن كله محكم، محكمه محكم، ومتشابهه محكم،،. وأن القُــرآن ليس بحمال أوجه،.
الذي ألجأ القائل لأن يقول هذا القول (القُــرآن حمال أوجه)،. هو ظنه ببعض الآيات لديه أنها تحتمل أمراً وتحتمل تخييراً،. فيأتيك بأمثلة ليصدق مقولته تلك،. ولو حققت في أمثلته فتجد أنها لا تعدو سوء فهم منه شخصياً،.
ثامناً،. هل تعلم ما هو، ومن هو (حمال عدة أوجه)؟! اقرأ حديث النّبي ﷺ لتعلم من أين أتى بها الشيطان الخبيث وألصقها بالقرآن، وصدقها الأحمق الغبي،.
ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ؛ ﺃﻧﻪ ﺳﻤﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﻘﻮﻝ ﴿ﺇﻥ ﺷﺮ اﻟﻨﺎﺱ ﺫﻭ اﻟﻮﺟﻬﻴﻦ، اﻟﺬﻱ ﻳﺄﺗﻲ ﻫﺆﻻء ﺑﻮﺟﻪ ﻭﻫﺆﻻء ﺑﻮﺟﻪ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ،.
شر الناس هذا نعته،. والقرآن عندهم كذلك اشترك فيها، فهذا نعته،. لا نقول سوى حَسْبُنَا اللّٰه وَنِعْمَ الْوَكِيْل على من اتهم القُــرآن بهذا،. الذي اخترعها ليس علي ولا ابن عباس، بل الشيطان،. واللوم على المخذولين الذي قبلوا ذلك على القُــرآن،. بل أتوا بالأمثلة الغبية ليثبتوا هذه المقولة،. ولو أطال الله بعمرنا،. لرددناها عليهم كلها،. فلا يصح منها مثلٌ واحد، والقُــرآن ليس بحمال أوجه،. بل كله محكم صريح ومبين،. قالَ اْللّٰه عن كتابه،. ﴿الر ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)) مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود 1]،. فحاشاه أن يكون حمَّال أوجه،.
رَبَنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا،.. ﴿ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾،.
بكيبورد، محسن الغيثي،.