الحكمة،. واسم اللّه؛. الحَكِـيمْ،.
الحَكيمْ: ليس كما يظن الناس،. أنه الذي يقول الحِكَم والنوادر،. الحكمة ليست التُؤدة والأناة والرفق،. وليست هي قول الأشياء المعبرة والعميقة وليست هي التجارب، كما يقال عن الحكيم والحكماء،. بل هي شيء آخر،.
الحكيم في اللسان من الإحكام؛ الاغلاق بشدة،. أن لا يدخل إليه شيء ولا يفلت منه شيء،. كما نقول مُحكمة الغلق،. إحكام القارورة،. قالَ اْللّه،. ﴿الر كِتَابٌ *((أُحْكِمَتْ))* آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ *((حَكِيمٍ))* خَبِيرٍ﴾ [هود 1]،. وبسبب هذا الإحكام أصبح القُــرآن،. ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ *((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ))* حَمِيدٍ﴾ [فصلت 42]،.
فالحكيم هو المتحكم الممتنع، لا يدخل ولا يخرج من ملكه شيء ((إلا بإذنه))، النافذ بحكمه، الحاكم،. المتحكم، القاهر بسلطانه! إذا أراد أمراً لن يمنعه أحدٌ!،.
ــــــ ضع هذه في ذهنك *((إلا بإذنه،. إلا بمشيئته،. إلا بإرادته))،.*
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ *((وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))* إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ *((حَكِيمٌ))﴾* [اﻷنفال 10]،. من عند الله وحده، إن أراد أن ينصرك ستنتصر،. ولا شيء غيره يستطيع إن ينصرك،. هذا من الاحكام،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ *((كَيْفَ يَشَاءُ))* لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ *((الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))﴾* [آل عمران 6]،. لاحظ المشيئة والحكم،. وهذا من التحكم التام والسيطرة وقوة النفوذ،. أنه لا يحصل شيءٌ إلا بإرادته هو مشيئتة هو،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَآخَرُونَ *((مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ؛ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ؛ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ))* وَاللَّهُ عَلِيمٌ *((حَكِيمٌ))﴾* [التوبة 106]،. المشيئة والاختيار بإمر الله، هذا من الاحكام،. وقالَ اْللّٰه،. ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ *((مَنْ يَشَاءُ))* وَاللَّهُ عَلِيمٌ *((حَكِيمٌ))﴾* [التوبة 15]،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا *((وَاللَّهُ يُرِيدُ))* الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ *((حَكِيمٌ))﴾* [اﻷنفال 67]،.لن يحصل إلا ما أراد الله،. قال،. *﴿((يُرِيدُ اللَّهُ))* لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ *((حَكِيمٌ))﴾* [النساء 26]،.
تلاحظ أن كل الآيات بعد أن يذكر الله ما يشاء هو، وما يريد هو، ثم بعدها يذكر اسمه (الحكيم)،. فاسم الحكيم متعلق بما يشاؤه الله وما يريده وحده،. كل شيء بأمره هو،. لهذا هو الحكيم،.
ــــ انظر أين ذكر الله اسمه الحكيم،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ *((إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))* إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا *[[حَكِيمًا]] ((يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ))* فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [اﻹنسان 30 ــ 31]،.
قالَ،. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ *((إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه))﴾* يعني فقط ما يريده هو، هذه من حكمته، تَبٰارَكَ اْسْمُهُ،. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ يعني فقط ما يشاء هو، من يشاؤه هو، وليس لأحد فيها يدٌ، إنما اللّه وحده، هذا من إحكام الشيء،.
ــــ قال الله عن الذكر أنه كتاب عزيز، ثم قال،. ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ *((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ))* حَمِيدٍ﴾ [فصلت 42]،. ليس فيه إلا ما أراد اللّه،. هذا من إحكامه للذكر،. فالذكر كتاب عزيز حكيم،. لن يأتي أمامه ولا من خلفه شيء يبطله ويمنع نفوذه،. فإن كتب الله شيئاً فسينفذ وعده ويتحقق كرهاً،. لن يمنعه أحد،.
قالَ اْللّٰه عن الكتاب عموما،. ﴿تِلْكَ آيَاتُ *((الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))﴾ [لقمان 2]،. وقال،. ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ ((الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))﴾ [يونس 1]،.
قال الله عن الذكر،. ﴿ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ ((وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ))﴾ [آل عمران 58]،. كيف أحكم الله الذكر؟ قالَ اْلله،. ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ((الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))﴾ [الحجر 9]،. ويتضح المعنى أكثر في هذه الآية،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ ((يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ)) وَاللَّهُ عَلِيمٌ ((حَكِيمٌ))﴾ [الحج 52]،. فلن يتغير شيء في الآيات، لأن الله الحكيم أحكم آياته،. ولهذا من آيات القُــرآن آيات متشابهة،. ولكن كلها محكمة هن أم الكتاب،. أي أصله،. قال اْللّٰه،. ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..﴾ [آل عمران 7]،.
ــــــــــ الحكيم والعزيز!،.
الله الحكيم،. كثيراً ما يذكر اسمه الحكيم مع العزيز،. قالَ اْللّٰه،. ﴿هُوَ اللَّهُ ((الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ)) لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ *((الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))﴾* [الحشر 24]،.
((الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ)) معانيها قريبة من بعض،. بينها رابط يربطها ببعض،. كذلك ((الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) تتشابهان! فإذا عرفت العزيز ستعرف من هو الحكيم!،.
هذان الاسمان (مع بعضهما)، أكثر اسمين وردا في القُــرآن عن الله، وردا 29 مرة،. وفيهما علاقة بالاخلاص لله،. ارتبطا بــ لَاْ إِلَهَ إِلاَّ اْللّٰه،. قالَ اْللّٰه،. ﴿هُوَ ٱلَّذِي یُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَیۡفَ یَشَاۤءُ، *((لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ))﴾* [آل عمران 6]،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ *((لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ))*، وَٱلۡمَلَائكَةُ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡعِلۡمِ قَاۤئمَۢا بِٱلۡقِسۡطِ، *((لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ))*﴾ [آل عمران 18]،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّ *((وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ))﴾* [آل عمران 62]،.
وأكثر سورة ورد فيها العزيز الحكيم، محلاة بألفٍ ولام، هي سورة آل عمران،. ورد فيها 4 مرات،. هذه السورة بدأت بــ ألم، الله لَاْ إِلَهَ إِلاَّ هو،.
ــــ العزيز من العزة والتعزز،. والعزة هي المَنَعة والشدة والقُوة،. قالَ اللّٰه،. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ *((وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ))﴾* [فاطر 15 ــ 17]،. ﴿وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أي؛ بشديد وممتنع! ومثلها في سورة إبراهيم،. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَٰلِكَ *((عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ))﴾* [إبراهيم 19 ــ 20]،.
وهنا واضحة، بيَّنَتها هذه الآية،. ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ *((بِكَافٍ عَبْدَهُ/عبَادَهُ))* وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ *((فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ))* وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ *((فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ))* أَلَيْسَ اللَّهُ *((بِعَزِيزٍ))* ذِي انْتِقَامٍ﴾ [الزمر 36 ــ 37]،. أي، يفعل كل شيء يريده،. لا يمنعه شيء،.
ــــ قالَ اْللّٰه على لسان شعيب،. ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ *((لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا [بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ] عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا))* إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [هود 91 ــ 92]،.
قالوا،. ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾،. أي نستطيع عليك بسهولة، لم يمنعنا سوى رهطك،. فرد عليهم أتظنون أن رهطي،. ﴿أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾؟،. اللّٰه أعز وأشد وأمنع، ولكنكم تركتموه،.
ــــ إبليس أقسم بعزة الله،. ﴿قَالَ فَـ((ـبِعِزَّتِكَ)) لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص 82]،.
لماذا أقسم بعزة اللّه؟ أقسم بعزة اللّه لأنه لو لم يأذن له العزيز؛ فلن يستطيع أن يغوي أحداً،.
هذه في سورة ﴿ص﴾،. التي قال اللّه في أولها،. ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي *((عِزَّةٍ))* وَشِقَاقٍ﴾ [ص 1 ــ 2]،. وقال اللّه ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ *((الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ))﴾* [ص 9]،.
لماذا قرن ((الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ)) ببعضهما؟،. لأنه بعد أن ذكر خزائن رحمته،. قال عن نفسه أنه هو الذي يمسك ويمتنع من العطاء منها وهذا ((الْعَزِيزِ))،. أو أنه يعطي ويهب منها،. وهذا ((الْوَهَّابِ))،. هذه مقابل تلك،. هذه أضداد في المعنى، فالعزة هي الإمتناع بقوة، فحين أقسم الشيطان، أقسم بالعزة، أي: يا رب لو أذنت لي، لأغويتهم، ولو منعتني، لن أستطيع أن أغويهم، فاذن لي،. فالشيطان ليس له سلطان ولا حكم ولا عزة،. إن لم يأذن الله له فلن يحرك ساكناً، ولكن طالما أغوى بني البشر، فهذا يعني أن الله أذِن له أن يغويهم،. ثم استثنى،. ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص 83]،. وفي قراءة ﴿..الْمُخْلِصِينَ﴾،. وهؤلاء ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ لم يأذن اللّه له بأن يغويهم،. لأنه أخلصهم للآخرة،. ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ص 46]،.
ــ معنى الحكيم قريب من معنى العزيز،. أي الممتنع! ومنه الحاكم الذي يتحكم بملكه ومملكته! فيدخل من يشاء ويخرج من يشاء، وكذلك العزيز،. كيوسف ﷺ عزيز مصر، حين كان عزيزاً حاكماً قال،. ﴿..قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي ((أُوفِي الْكَيْلَ)) وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ *فَـ((ـلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ))﴾* [يوسف 59 ــ 60]،. هذه من العزة والإحكام!،.
والله قال عن يوسف،. ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ *((ءَاتَیۡنَهُ حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰا))* وَكَذَلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف 22]،.
ــــــــــــ مقابل معنى الحكمة!،.
من ضدها تعرف معناها،، ما هو عكس الحكم والإحكام؟!،. عرفنا أن الإحكام هو الذي لا يتفلّت منه شيء،. قوي شديد،. متحكم،. مسيطر،. ما ضده؟!،.
ضده : الفالت، غير المتماسك، كالطفل الصغير الذي لا يلقي بالاً ولا يعير اهتماماً لشيء،. فالت،. حركي،. لا يكون مسيطراً على نفسه ولا يستطيع التحكم بهواه، فهو صبيٌّ،.
وهذه آية عجيبة عن يحيى ﷺ؛ تبين معنى الحكمة!،. قال اللّه عنه،. ﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ *((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))* وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم 12 ـ 15]،.
الحكم هنا ليس ما يتبادر للفهم أنه المُلك والسيادة! بل هو من الاحكام والمنعة!،. وتفهمها مما يقابلها ويضادها، في الآية قال،. ﴿..وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ((صَبِيًّا))﴾،. فالصبي هو المتفلت الغير مستقر،.
لهذا يقال عن الصغير غير المتحكم: صبِيّ؛. قال يوسف ﷺ،. ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ *((أَصْبُ إِلَيْهِنَّ))* وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف 33]،. فكان يلزمه حكمة من اللّه؛ حتى لا يتفلت وينساق لهواه ويصبو إليهن!،. وقد آتاه الله الحكم،. ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ *((ءَاتَیۡنَاهُ حُكۡمࣰا))* وَعِلۡمࣰا وَكَذَلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف 22]،.
فيحيى كان عنده الحكم في صباه وصغره، ومن أجل هذا رويَ عن رسُول اللّه ﷺ (بحديث في سنده مقال)،. أنه قال،. ﴿ما من أَحَدٍ من وَلَدِ آدمَ إلا قد أخطأَ أو هَمَّ بخطيئةٍ ((ليس يحيَى بنَ زكريا)) وما ينبغي لأَحَدٍ أن يقولَ أنا خيرٌ من يونسَ بنِ مَتَّى﴾ مسند أحمد - 4/80،. فمن الحُكم الذي آتاه اللّه، لم يخطئ أبداً! كان ضابطاً لشهواته!،. متمكناً منها، غير متفلت،. حصر نفسه ومنعها من اتباع الشهوات،. قالَ اْللّٰه عنه،. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِیَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّیَّةࣰ طَیِّبَةً إِنَّكَ سَمِیعُ ٱلدُّعَاۤءِ فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَائكَةُ وَهُوَ قَاۤئمࣱ یُصَلِّي فِی ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا *((وَحَصُورࣰا))* وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّالِحِینَ﴾ [آل عمران 38 - 39]،. والإحصار كالمحاصَر والمحاصِر،. الممتنع، المحشور،. ولاحظ كيف ذكر الله المنع عند الفقراء،. قالَ اْللّٰه،. ﴿لِلۡفُقَرَاۤءِ *((ٱلَّذِینَ أُحۡصِرُوا۟ فِي سَبِیلِ ٱللَّهِ لَا یَسۡتَطِیعُونَ ضَرۡبࣰا فِي ٱلۡأَرۡضِ))* یَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِیَاۤءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِیمَاهُمۡ لَا یَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافࣰا وَمَا تُنفِقُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِیمٌ﴾ [البقرة 273]،. ونقول في لساننا محصور، لمن أراد التبول، فمنع نفسه حتى يصل لمكان البول،. ومن حوصر مُنع من الخروج،. فلا يستطيع الحركة،. فيحيى لم يكن متفلتاً، كان حكيما،. ضابطاً لنفسه عن اتباع شهواتها،. قال الله،. ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))،. فلم يَهَم بخطيئةٍ!! يعني حتى ما فَكَّرَ بخطيئةٍ!، هذه من الاحكام،.
ومن تصاريف الصبوة الصابئين، قال الله،. ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِـِٔینَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـالِحࣰا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة 62]،. ما معنى صابئة؟!،. الصابئة الذين غيروا دينهم، ولم يجمدوا على دين آبائهم لما سمعوا الحق،. لم يحكموا أنفسهم على قرار واحد جموداً وتصلباً [أحكاماً له]،. بل كانوا لينين وليسوا متكبرين،. حين سمعوا الهُدَىٰ أسلموا للّٰه،. هؤلاء صابئة، ويصح أن يقال كذلك على المسلم الذي غير دينه وبدله،. هو كذلك صابئ،.
ومن تصاريفها أيضاً الصب كما يصب الماء [سكبها] من القارورة بعد فتحها [لم تعد محكمة]،. قالَ اْللّٰه،. ﴿فَلۡیَنظُرِ ٱلۡإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَاۤءَ صَبࣰّا﴾ [عبس 24 - 25]،. فالماء لو أفلتته صببته،. بمجرد تحركه من مكانه لم يعد متماسكاً محكماً،.
ــــ الترابط بين أسماء الحاكم،. الملك والسلطان والأمير والعزيز،.
من أسماء الحاكم، الملك والسلطان والعزيز والأمير،.
الحاكم من إحكام الشيء، فيه التحكّم قوة القبض،.
والملك من التملك،. أن تملك نفسك وتملك غيرك فتتحكم،.
والعزيز القوي الممتنع، [سبق شرحه]،.
والسلطان أن تتسلط فتفعل ما تشاء وما تريد،.
والأمير، يأمر وينهى، ويُسمع له ويُطاع،.
كلها متقاربة من الحِكمة والاحكام،. فيها التسلط والقوة والنفوذ،.
وحين يتكلم القُــرآن عن (الحُكم السُلطة السياسية) فهو يسميه الملك والعزيز، أما إذا ذكر الحُكم دون الملك، فهذا من الإحكام وليس من التملك، بل من التحكم والمشيئة، العزة والمنعة،. فكل مُلكٍ حُكم، وليس كل حُكم مُلك،. قد يكون الإنسان حاكماً نفسه ورغبته وشهواته وهو ليس بملك،. وقد يملك نفسه وليس بحاكم،.
قالَ اْللّٰه عن داوود،. (وَشَدَدْنَا *((مُلْكَهُ)) وَآتَيْنَاهُ ((الْحِكْمَةَ))* وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص 20]،. فجمع له الاثنين،. وسنأتي على تدبره إِنْ شٰاْءَ اللّٰه،.
ــ قال إبراهيم ﷺ،. ﴿رَبِّ هَبْ لِي ((حُكْمًا)) وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء 83]،. لا تظن أن إبراهيم ﷺ أراد ملكاً وسيادة، الحُكم هنا ليست الأمارة والملك، الحكم هنا الإرادة والتحكم بالنفس مما تشتهي وتهوى، فلا يصبو لشهواته ورغباته،. إبراهيم لم يكن ملكاً أو سلطاناً، بل كان حكيماً،. وقال موسى،. ﴿فَفَرَرۡتُ مِنكُمۡ لَمَّا خِفۡتُكُمۡ ((فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكۡمࣰا)) وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ [الشعراء 21]،. وقال الله عن يوسف،. ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ *((ءَاتَیۡنَاهُ حُكۡمࣰا))* وَعِلۡمࣰا وَكَذَلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف 22]،. الحكام إنما سموا بهذا الاسم لتحكمهم في أمور الناس من منع وعطاء،. وكذلك من يحكم بين المتخاصمين،. هو الذي يرد إليه القضاء،. يذر أو يهب، يعزّر أو يعذِر، يقضي أو يتجاهل وهكذا،. بيده الأمر،. فهم حاكم،. يحكم الأمور،.
ــــ والآن تفهم لماذا ملئ قلب النّبي ﷺ إيماناً وحكمة!،.
ﻋﻦ ﺛﺎﺑﺖ، ﻋﻦ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﴿ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻛﺎﻥ ﻳﻠﻌﺐ ﻣﻊ اﻟﺼﺒﻴﺎﻥ، ﻓﺄﺗﺎﻩ ﺁﺕ، ﻓﺄﺧﺬﻩ ﻓﺸﻖ ﺑﻄﻨﻪ، ﻓﺎﺳﺘﺨﺮﺝ ﻣﻨﻪ ﻋﻠﻘﺔ، ﻓﺮﻣﻰ ﺑﻬﺎ، ﻭﻗﺎﻝ: ﻫﺬﻩ ﻧﺼﻴﺐ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻣﻨﻚ، ﺛﻢ ﻏﺴﻠﻪ ﻓﻲ ﻃﺴﺖ ﻣﻦ ﺫﻫﺐ، ﻣﻦ ﻣﺎء ﺯﻣﺰﻡ، ﺛﻢ ﻷﻣﻪ، ﻓﺄﻗﺒﻞ اﻟﺼﺒﻴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻇﺌﺮﻩ: ﻗﺘﻞ ﻣﺤﻤﺪ، ﻗﺘﻞ ﻣﺤﻤﺪ، ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻠﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭﻗﺪ اﻧﺘﻘﻊ ﻟﻮﻧﻪ، ﻗﺎﻝ ﺃﻧﺲ: ﻓﻠﻘﺪ ﻛﻨﺎ ﻧﺮﻯ ﺃﺛﺮ اﻟﻤﺨﻴﻂ ﻓﻲ ﺻﺪﺭﻩ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ اﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺷﻴﺒﺔ، ﻭﺃﺣﻤﺪ، ﻭﻋﺒﺪ ﺑﻦ ﺣﻤﻴﺪ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، ﻭﺃﺑﻮ ﻳﻌﻠﻰ، ﻭاﺑﻦ ﺣﺒﺎﻥ، ﻭﺃﺑﻮ ﻋﻮاﻧﺔ، ﻭاﻟﺒﻴﻬﻘﻲ، ﻓﻲ "ﺩﻻﺋﻞ اﻟﻨﺒﻮﺓ".
وفي رواية مسلم،. (بسند فيه مقال)،. قال،. ﴿بينا أنا عند البيتِ بين النائمِ واليقْظانِ. إذ سمعتُ قائلًا يقولُ: أحدُ الثلاثةِ بين الرجلين. فأتيتُ فانطلق بي، فأتيتُ بطَستٍ من ذهبٍ فيها من ماءُ زمزمَ. فشُرح صدري إلى كذا وكذا. (قال قتادةُ: فقلتُ للذي معي: ما يعني؟ قال: إلى أسفلِ بطنِه) فاستخرج قلبي، فغسلَ ماء زمزمَ. ثم أُعيدَ مكانَه، ثم ((حشِي إيمانًا وحكمةً))........ الحديث،. وفي روايةٍ عن مالك بن صعصعة،. ﴿أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: فذكر نحوَه. وزاد فيه فأُتيتُ بطَستٍ من ذهبٍ ممتلئٍ ((حكمةً وإيمانًا))، فشق من النحرِ إلى مراقِ البطنِ، فغسلَ بماءِ زمزمَ، ثم ملِئ ((حكمةً وإيمانًا))﴾ صحيح مسلم - 164.
أسْري به للسماوات، لعالم آخر تماماً غير عالمه، فسوف يرى في ذلك العالم أموراً تذهله، سيهاب منها، ويُكبِرها ويُعظمها في ذلك العالم، سيرى ما لم يعتد على رؤيته، فيلزمه شيءٌ يُمسّكه ويقوّيه ويمنعه من الخوف والاغماء وحتى لا يذهب عقله، وحتى يتم إيمانه وتصديقه! فلهذا مُلِئ قلبه إيماناً وحكمة!،.
ـــــــــــــــــــــــــ معنى "الحكمة"،..
هذه الكلمة كانت محط جدال عريض بين القُرآنيين السفهاء وبين السلفية البلهاء،. كل منهم يستخدم ذات الكلمة للدلالة على منهجه،. فالسلفي يقول الحكمة هي سنة النّبي ﷺ،. ودليله قول الله لنساء النّبي ﷺ،. ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا یُتۡلَىٰ في بُیُوتِكُنَّ *((مِنۡ ءَایَاتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ))* إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا﴾ [الأحزاب 34]،.
والقرآني يقول بأن الحكمة هي الاحتكام لكتاب الله،. والحكم بين الناس بهذا القُــرآن،. ودليله أن الحكمة من مشتقات الحُكم،. وقد قال الله،. ﴿وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَابَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَابِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِ *((فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ))* وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّ ..... *((وَأَنِ ٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ))* وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن یَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَ...﴾ [المائدة 48 - 49]،.
وكلاهما مخطئ،. كلاهما يشتهي ويظن، كلاهما يفسر بهواه وظنه،. دون تدبر وصبر، دون بصيرة وعلم،.
وبتدبرنا هذا لكلمة الحكمة سيسقط استدلال السلفي، ولكن لا نسقط حجية السنة وكلام النّبي ﷺ والحديث المطهر الشريف،. فالحديث حقٌ، وحجةٌ على الناس، ووحيٌ من الله بلا ريب،. والبينات عليها كثيرة جداً [ليس هذا موضعها]، أما هذا الاستدلال هذا فهو غلط،. نقول هذا حتى لا يفرح النكراني بردنا على السلفي،. ولا يفرح السلفي ويظن أننا ننتصر لصالح النكراني،.
سنتكلم الآن عن *"الحكمة"* بلام العهد، أو لام التعرِفة، أو اللام المُعرَّفَة، وليس عن "الحُكم، ولا الحِكم، ولا التحكيم،. ولا الحكام، ولا الإحكام"،. إنما عن "الحكمة" فحسب،. ولو أن جميع ما سبق يحمل بين طياته معنى ضمنياً واحداً وهو الضبط والقوة والسيطرة،. وضده التفلت والصبوة والتغيّر،.
ذكرت "الحكمة" مع آل إبراهيم [الذين اصطفاهم الله]،. وذكرت مع أربعة أنبياء،. [داوود ولقمان وعيسى ومحمد،. عَلَيْهِم اْلصَّلَاْة وَاْلسَّلَاْم،. وذكرت مع الذين آتاهم الله الحكمة،. [وبلا شك هذه ليست لكل الناس]،. وذكرت الحكمة كذلك مع [الأوامر والوصايا] في سورة الإسراء،. وذكرت بكثرة في سورة المائدة،.
ذكرت الحكمة مع 4 أنبياء فقط بالتصريح، دون بقية الأنبياء،. فليس كل الأنبياء ذكرت معهم الحكمة،. فالحكمة لم تذكر مع نوح، ولا شعيب،. ولا موسى [رغم أن عنده التوراة]،. فالحكمة ليس لها علاقة بالكتب،. ولا بسنن الأنبياء،. ولكن عليك أن تنظر في هؤلاء الأربعة،. لتفهم لماذا هم بالتحديد،. وما علاقة ذلك بدعوتهم؟!،.
الحكمة، ليست كما ادعى كثير من الناس أنها هي السنة أو تفاصيل وفقه الصلاة والصيام،. ولا حتى هي آيات القُــرآن،. إنما هي إحكام وضبط النفس عن الشهوات التي يرغب الإنسان بفعلها، فالحكمة قيلت في الأوامر والنواهي، فهي (المواعظ) ليحكم الانسان نفسه فيصبر ويملك نفسه ويضبطها، يتحكم فيها،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ *((وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ))* وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة 231]،.
ربط الله الحكمة هنا بالموعظة،. فالحكمة مواعظ يعظها الأنبياء لأقوامهم،. ليحكموا أنفسهم عن شهواتها،. الحكمة لها علاقة بنبذ الدنيا والشهوات والأهواء، والصبر عليها حتى الممات،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ *((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ))* وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران 164]،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ *((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ))* وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة 2]،.
قال اْللّٰه،. ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا *((وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ))* وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي..﴾ [المائدة 110]،. وقال،. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *((وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ))﴾* [آل عمران 47 - 48]،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ *((مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ))* إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [اﻷحزاب 34]،. أي من أفعال النّبي ﷺ وكيف كان يحكم نفسه باتباع الكتاب،. وكيف كان يتقي ويصبر، وكيف كانت حياته وخُلقُه وماهي مواعظه للناس [سواء من أصل القُــرآن أو مما أوحاه اللّٰه إليه من غير القُــرآن]،.
الكتاب هو القرآن والسنة،. أما الحكمة فهي المواعظ، لضبط النفس عن المعاصي والشهوات، الحكمة هي ما علمناها من القُــرآن، بالبينات،. لا يمكن اختصار تعريفها في كلمة، بل هي الحكمة،. وتُضادُّها الصباوة والتفلت،.
أكثر سورة حوت جميع مشتقات الحكمة هي المائدة [19 مرة]، ولكن أكثر سورة ذكرت كلمة "الحكمة" المعرفة بلام العهد، هي البقرة [6 مرات]،.
نبدأ بأولها، لأنها شارحة ومفسرة بقوة، لمعنى الحكمة،. وهي آية ﴿يؤتي الحكمة من يشاء﴾،. ثم نتكلم عن بقيتها لننظر دقة القُــرآن، ومدى توافق الكلمة في كل مواقعها في القُــرآن،. وأنها كلها تصب في معنى واحد منسجم ومتناسق،.
1 ــــــــ يؤتي الحكمة من يشاء،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿یُؤۡتي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن یَشَاۤءُ وَمَن یُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَابِ﴾ [البقرة 269]،.
بالنظر في سياق هذه الآية، تجدها جائت في منتصف الكلام عن الإنفاق،. قالَ اْللّٰه،. ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ *[[أَنفِقُوا۟ مِن طَیِّبَاتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّاۤ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا تَیَمَّمُوا۟ ٱلۡخَبِیثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ]]* وَلَسۡتُم بِآخِذِیهِ إِلَّاۤ أَن تُغۡمِضُوا۟ فِیهِ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌ حَمِیدٌ ٱلشَّیۡطَانُ یَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَیَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱللَّهُ یَعِدُكُم مَّغۡفِرَةࣰ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣰا وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِیمࣱ *((یُؤۡتي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن یَشَاۤءُ وَمَن یُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا))* وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَابِ *[[وَمَاۤ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ]]* أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِینَ مِنۡ أَنصَارٍ﴾ [البقرة 267 - 270]،.
وحين تسمع كلمة النفقة، تستحضر معه مباشرةً حب المال، وشدة تعلق الناس به، فالمال معدن الدنيا، حين تسمع كلمة النفقة،. تتذكر كل ما يتعلق بالمال، وجمعه، والحرص عليه، والاستثمار فيه، والإكثار منه، وعَدُّه وكنزه ووعاؤه [حفظه]،. والمال أكثر شيءٍ يتعلق به قلب الإنسان،. فهو معدن الدنيا،. ثم تلحقها الأمور الاخرى كالسمعة والمكانة والشهرة وكثرة الاتباع والجاة،.
المال فتنة، قالَ اْللّٰه،. ﴿إِنَّمَاۤ *((أَمۡوَالُكُمۡ وَأَوۡلَادُكُمۡ فِتۡنَةࣱ))* وَٱللَّهُ عِندَهُ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ﴾ [التغابن 15]،. وقال،. ﴿وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَاۤ *((أَمۡوَالُكُمۡ وَأَوۡلَادُكُمۡ فِتۡنَةࣱ))* وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ﴾ [الأنفال 28]،. قال اعلموا، لأن المؤمن قد يغفل فيظنها جيدة وضرورية،. ولا يدري أن المال فتنة،. فمهما حاولوا تلميعها ستبقى فتنة،. الله هو الذي قال عنها أنها فتنة،.
فالمال فتنة عظيمة، وهي ليست كبقية الفتن،. هذه الفتنة شديدة لأنها محبوبة للأنفس، هي فتنة يشتهيها الانسان بقوة ((لأنها مغلّفة بغلاف الخير))،. فهو يريدها، يبذل لأجلها جهد المقل، وصحة الجسم، وقوة الشباب، وتعب السنين بل دهراً من العمر،. لينال هذه الفتنة،. تصوّر ذلك!،. يسعى لينال الفتنة،.
إن حصل على هذه الفتنة فرح واستبشر،. وإن فاتته الفتنة تذمّر وتحسر وسخط،. وإن أُغلقت دونه أبوابها يئس وتندّم، وإن تجاوزته الفتنة لأخيه أو صاحبه وجاره حسده عليها،. يدعو الله ليل نهار أن يؤتيه "هذه الفتنة"،. وإن رأى أمه تدعو الله في خشوع، سألها أن تدعو ليفتح الله عليه أبواب "هذه الفتنة"،. هذه ليست مبالغة،. كلنا يفعل هذا،.
من مصائب هذه الفتنة الخطرة، أن لها مدافعون يجتهدون في تلميعها وإظهارها أنها حسنة، ليجعلوها ضرورة لازمة من ضرورات الدين،. وهؤلاء ليسوا من عامة الناس والجهلة، إنما من عِلية القوم وأشرافه، يسميهم البعض علماء،. ربطوا عز هذه الأمة بــ "هذه الفتنة"،. وقد رأيت من عكف سنيناً طويلة، يؤلف فيها ليثبت أن "هذه الفتنة" جيدة جداً لتقدم المسلمين وحضارتهم،.
لن أبالغ أبداً لو قلت بأن معظم ما نقوم به في حياتنا هو لأجل الحصول على هذه الفتنة،. من الدراسة، والجامعة والعمل والسهر والهجرة والاغتراب، بل لأجل هذه الفتنة قامت مظاهرات واعتصامات بل حروب وتدمير وقتل وتخريب،.
ــــ فتنة،. ونحبها،.
تكمن خطورة هذه الفتنة أننا نحبها بشهادة الله، فحب هذه الفتنة مزروع فينا كلنا،. قال رسُول اللّٰه ﷺ،. ﴿ﻳﻜﺒﺮ اﺑﻦ ﺁﺩﻡ، ﻭﻳﻜﺒﺮ ﻣﻌﻪ اﺛﻨﺎﻥ ((ﺣﺐ اﻟﻤﺎﻝ))، ﻭﻃﻮﻝ اﻟﻌﻤﺮ﴾ ﻭﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ،. ﴿ﻳﻬﺮﻡ اﺑﻦ ﺁﺩﻡ، ﻭﺗﺒﻘﻰ ﻣﻨﻪ اﺛﻨﺘﺎﻥ: اﻟﺤﺮﺹ، ﻭاﻷﻣﻞ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، وغيرهم،. وﻗﺎﻝ،. ﴿ﻗﻠﺐ اﻟﺸﻴﺦ ﺷﺎﺏ ﻋﻠﻰ ﺣﺐ اﺛﻨﺘﻴﻦ ((ﺣﺐ اﻟﻌﻴﺶ، ﻭاﻟﻤﺎﻝ))﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ اﻟﺤﻤﻴﺪﻱ، ﻭﺃﺣﻤﺪ، ﻭﻣﺴﻠﻢ.
وقالَ اْللّٰه،. ﴿زُیِّنَ لِلنَّاسِ ((حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَاطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَامِ وَٱلۡحَرۡثِ)) ذَلِكَ مَتَاعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ﴾ [آل عمران 14]،.
أحببناه حباً جماً،. قالَ اْللّٰه،. ﴿لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡآخِرِ وَٱلۡمَلَائكَةِ وَٱلۡكِتَابِ وَٱلنَّبِیّينَ *((وَءَاتَى ٱلۡمَالَ [عَلَى حُبِّهِ] ذَوِي ٱلۡقُرۡبَى وَٱلۡیَتَامَى وَٱلۡمَسَاكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤئلِینَ وَفِي ٱلرِّقَابِ))...﴾* [البقرة 177]،.
وقال،. ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكۡرِمُونَ ٱلۡیَتِیمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكۡلࣰا لَّمࣰّا *((وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبࣰّا جَمࣰّا))﴾* [الفجر 17 - 20]،.
ــــ المال خير، نحبه،. وحبنا له فتنة وبلاء،.
الله يسمي المال خيراً، قالَ اْللّٰه،. ﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ *((إِن تَرَكَ خَیۡرًا))* ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَالِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة 180]،.
وقال،. ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودࣱ وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِیدࣱ *((وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلۡخَیۡرِ لَشَدِیدٌ))* أَفَلَا یَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِي ٱلۡقُبُورِ﴾ [العاديات 6 - 9]،.
هذه الفتنة مغلّفة بغلاف الخير، لهذا لا نشعر أنها فتنة وبلاء،. قالَ اْللّٰه،. ﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤئقَةُ ٱلۡمَوۡتِ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ *((وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰ))* وَإِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾ [الأنبياء 35]،.
نبلوكم،. البلاء معلوم، يكون في شر،. لهذا قال ﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ﴾،. ولكن يبتلينا بالخير؟!،. هذه غريبة،. ولكن لاحظ،. سمى الله بلاء الخير بأنه فتنة،. ﴿وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰ﴾،. هنا تفهم أن بعض الخير شر،. وهذا الخير هو المال،.
فحب المال مفطورٌ فينا،. وهنا تكون الفتنة،. فبسبب هذا الحب المفطور فيهم، ظن الناس أنها خيرات، وإن أعطاهم الله فهو يحبهم،. بينما هو على العكس تماماً ولكن الناس لا يشعرون،. قالَ اْللّٰه، ﴿فَذَرۡهُمۡ فِي غَمۡرَتِهِمۡ حَتَّىٰ حِینٍ أَیَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن *((مَّالࣲ وَبَنِینَ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَیۡرَاتِ؟))* بَل لَّا یَشۡعُرُونَ﴾ [المؤمنون 54 - 56]،.
المال يعلق قلبك بالدنيا،. وأنت تحبه، ولا تريد أن تنفقه لأنك *تحبه،.* وهذه شهوة قوية لديك،. لا تستطيع الفكاك منها حتى تُحكِم *حبك للمال* فتتحكم بشهوتك في المال،. فتنفقه لوجه الله،. ترجو بذلك ثواب الآخرة،.
قالَ نَبِيّ اْللّٰه ﷺ،. ﴿..ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻌﻔﻒ ﻳﻌﻔﻪ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﻳﺴﺘﻐﻦ ﻳﻐﻨﻪ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﻳﺘﺼﺒﺮ ﻳﺼﺒﺮﻩ اﻟﻠﻪ، *((ﻭﻣﺎ ﺃﻋﻄﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺣﺪا ﻣﻦ ﻋﻄﺎء ﺃﻭﺳﻊ ﻣﻦ اﻟﺼﺒﺮ))﴾* ﺃﺧﺮﺟﻪ اﻟﺤﻤﻴﺪﻱ، ﻭﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺪاﺭﻣﻲ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، ﻭاﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻭاﻟﻨﺴﺎﺋﻲ.
وفي الحديث، النّبي ﷺ يتكلم عن التعفف والاستغناء،. والصبر على الفقر والبلاء، فلو صبرت وأنفقت مالك الطيب الذي تحبه،. *(وهو أصعب شيء على نفسك،.)* فقد صبرت وحكمت شهوتك وتخلصت من حبك للدنيا،. فالانفاق حِكمة،. ولن تنفق حتى تُحكم هذه الشهوة في حب هذا المال،. فتتخلص منه،. لهذا جعل الله،. ﴿یُؤۡتي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن یَشَاۤءُ﴾،. في منتصف آيات النفقة،.
قال الله،. وَمَن یُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا،.
قال الرسول ﷺ،. ﻣﺎ ﺃﻋﻄﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺣﺪا ﻣﻦ ﻋﻄﺎء ﺃﻭﺳﻊ ﻣﻦ اﻟﺼﺒﺮ،.
وهذه تفسر تلك،..
2 ــــــــــ الحكمة في سورة الإسراء،.
توجد آيات في سورة الإسراء، قالَ اْللّٰه بعدها أنها ذلك من الحكمة،. قالَ اْللّٰه،. ﴿ذَلِكَ مِمَّاۤ أَوۡحَىٰۤ إِلَیۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومࣰا مَّدۡحُورًا﴾ [الإسراء 39]،.
فماذا كان ذلك؟! وكيف نفهم الحكمة فيها؟!،.
ستجد أن الآيات جميعها أوامر ونواهي يلزمها ((إحكام)) للنفس عن شهواتها ورغباتها، وكلها بحاجة لضبط نزوات النفس لفعلها،. والملاحظ أنها لم تكن عن العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقاً،.
قالَ اْللّٰه،. [1] لَّا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ،... [2] وَبِٱلۡوَالِدَیۡنِ إِحۡسَانًا،.... وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ،.... [3] وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُ وَٱلۡمِسۡكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ،.... [4] وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِیرًا،... [5] فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلࣰا مَّیۡسُورࣰا،.... [6] وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ،... [7] وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَوۡلَادَكُمۡ خَشۡیَةَ إِمۡلَاقࣲ،..... [8] وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلزِّنَا،... [9] وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ،..... [10] وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ،.... [11] وَأَوۡفُوا۟ بِٱلۡعَهۡدِ،.... [12] وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ،.... [13] وَزِنُوا۟ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِیمِ،... [14] وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِ عِلۡمٌ،.... [15] وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًا،... ثم قال،. ذلك مِمَّاۤ أَوۡحَىٰۤ إِلَیۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِ،.
فالحكمة كانت في الأوامر والنواهي،. وليست في فقه الصلاة والزكاة والصيام،. فالحكمة ليست العبادات،. إنما هي الموعظة لضبط الأنفس عن تفلتاتها،. هذه بحاجة لإحكام النفس،. لهذا سميت حكمة،.
وهذه الآيات التي تكلمت عن الحكمة،. معظمها كان متعلقاً بالمال [الذي هو معدن الدنيا]،. فكان فيها عقوق الوالدين [ولم يشغلك عنهم إلا الدنيا]،. وكان منها إتيان المساكين حقهم [هذه النفقة]، والنهي عن التبذير [هذا حب الاستثمار]،. وجعل اليد مغلولة [هذا البخل وقبض اليد]،. قتل الأبناء خشية الفقر [هذا لأجل التوفير]،. لا تقربوا مال اليتيم [هذا استغلال مال الضعيف]،. الوفاء بالعهد [معظم خيانات العهود تحصل بسبب المال]،. أوفوا الكيل وزنوا بالقسطاس [هذا الغش والتطفيف لأجل المال]،. لا تقف ما ليس لك به علم [التصدر والتفلسف لاجل السمعة ولفت الانظار وحب التفاف الناس حولك]،. لا تمش في الأرض مرحاً [الكبر سمة المترف المنعم كثير المال]،.
فكل ما سبق كان بسبب الدنيا العاجلة،. فسماه الله "الحكمة"، لتحكم نفسك عن شهواتك الدنيوية،.
قبل أن يتكلم الله عن هذه المواعظ والحكمة،. قال،. ﴿مَّن كَانَ *((یُرِیدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ لِمَن نُّرِیدُ))* ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصۡلَاهَا مَذۡمُومࣰا مَّدۡحُورࣰا *((وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡیَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ))* فَأُو۟لَئكَ كَانَ سَعۡیُهُم مَّشۡكُورࣰا *((كُلࣰّا نُّمِدُّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَهَـٰۤؤُلَاۤءِ مِنۡ عَطَاۤءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاۤءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا))* ٱنظُرۡ كَیۡفَ *((فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ))* وَلَلۡآخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَاتࣲ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِیلࣰا لَّا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقۡعُدَ مَذۡمُومࣰا مَّخۡذُولࣰا﴾ [الإسراء 18 - 22]،.
فالكلام كله كان عن العاجلة الفانية، الدنيا،. تلزمك الحكمة لتنجيك منها،. وهذه تشبه الوصايا التي في سورة الأنعام،.
قالَ اْللّٰه فيها،. ﴿قُلۡ تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَیۡكُمۡ،.
❒1 ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾
❒2 ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
❒3 ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾
❒4 ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾
❒5 ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ *ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ* لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ [الأنعام 151]،.
❒6 ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾
❒7 ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
❒8 ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾
❒9 ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا *ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ* لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام 152]،.
❒10 ﴿وَأَنَّ هَٰذَا ((صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)) فَاتَّبِعُوه وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ *ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ* لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [اﻷنعام 153]،.
كذلك قالَ اْللّٰه قبلها،. ﴿قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَاۤءَكُمُ ٱلَّذِینَ یَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُوا۟ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡ *((وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ))* وَهُم بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ﴾ [الأنعام 150]،.
والذي لا يؤمن بالآخرة، أحب الدنيا وتعلق بها، واتبع هواه،.
3 ــــــــــــــ الحكمة الاحكام والحكيم في المائدة [سورة عيسى]،.
قال إبراهيم في سورة إبراهيم،.. ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي *((فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))﴾* [إبراهيم 36]،.
بينما قال عيسى بن مريم ﷺ في أواخر سورة المائدة،. ﴿...فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ *((فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))﴾* [المائدة 117 ــ 118]،.
لم يقل المسيح (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم)،. كما قالها إبراهيم، لماذا؟،.
مع أنها لو تركت لنا (بمفهومنا القاصر) سنقول بأن الغفور هو الاسم اللائق المناسب هنا، لأنه يتكلم الآن عن المغفرة!،. لكنه ما قالها، بل قال،. ﴿فَإِنَّكَ أَنْت الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾،.. لماذا؟،..
هذا يعني أن الأمر أمرك،.. والشأن شأنك،.. ليس لي من الأمر شيء،. تفعل ما تريد، تفعل بمشيئتك أنت،. وبما تحكم به أنت،..
وردت تصريفات جذر حَكَمَ في سورة المائدة لوحدها 19 مرة،.. وهي أكثر من سورة البقرة (التي هي 16 مرة)! وكان من بينها هذه الآيات الشهيرة،. ﴿..وَمَنْ *لَمْ يَحْكُمْ* بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة 44]،.. وفيها،. ﴿..وَمَنْ *لَمْ يَحْكُمْ* بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة 45]،.. وفيها،. ﴿..وَمَنْ *لَمْ يَحْكُمْ* بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة 47]،.
قال اللّٰه عن نفسه في القُــرآن،.
﴿..وَلَٰكِنَّ اللَّهَ *يَفْعَلُ* مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة 253]،.
﴿..كَذَٰلِكَ اللَّهُ *يَفْعَلُ* مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران 40]،.
﴿..إِنَّ رَبَّكَ *فَعَّالٌ* لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود 107]،.
وقال في البروج،. *﴿فَعَّالٌ* لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج 16]،.
﴿..إِنَّ اللَّهَ *يَفْعَلُ* مَا يُرِيدُ﴾ [الحج 14]،.
﴿..وَأَنَّ اللَّهَ *يَهْدِي* مَنْ يُرِيدُ﴾ [الحج 16]،.
﴿..إِنَّ اللَّهَ *يَفْعَلُ* مَا يَشَاءُ﴾ [الحج 18]،.
لكن الله (الحكيم) من حكمته، قال في أول آية في سورة المائدة،. ﴿..إِنَّ اللَّهَ *(يَحْكُمُ)* مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة 1]،. وهذه الجملة لم تتكرر في القُــرآن كله إلا في المائدة،.. التي قال فيها ابن مريم،.. *﴿..فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾،.* ولكن لماذا خصت سورة المائدة بالحكمة؟!،.
لأن الخطاب في هذه السورة بالذات، موجه للمؤمنين حتى (يحكموا) أنفسهم،. ولا ينثنوا وينقلبوا من بعد إيمانهم خاسرين،.
فبدأت السورة بالخطاب المباشر الموجه للمؤمنين فقط،. بدأت بــ *﴿((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))* أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..﴾ [المائدة 1]،.
ثم وردت فيها جملة،. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..﴾،. أكثر ما وردت في القُــرآن في سورة المائدة،. ذكرها الله 16 مرة،.
فالسورة من أولها خطابٌ للمؤمنين خصيصاً، وليست للكافرين،. قال الله فيها للمؤمنين،. ﴿...*((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ))* أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا...﴾ [المائدة 2]،. والإعتداء يصدر من قويٍ متمكن،. وكأن اللّه يقول لهم احذروا،. لا تفسدوا إيمانكم بعد أن تمكنتم،.. وهذا من ((إحكام النفس))،.
وللعلم هذه السورة نزلت بعد الفتح،. أي بعد أن تمكّن المسلمون وصار لهم قوة،. فحتى لا يغتروا بأنفسهم ولا يظلموا ويعتدوا الآن انتقاماً من الكفار،. قال لهم مجدداً،. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ *((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا))* اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللّه...﴾ [المائدة 8]،.
في هذه السورة قال موسى ﷺ لقومه،. ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ *فَـ((ـتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ))﴾* [المائدة 21] ،.
في هذه السورة،. اغترت اليهود والنصارى بأنفسهم،. *﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ...﴾* [المائدة 18]،. ولكن لم يحكموا أنفسهم عن شهواتها،. قالَ اْللّٰه،. *﴿وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾* [المائدة 62]،. ظلما وعدوانا،.
في هذه السورة قال اللّه،. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...﴾ [المائدة 101]،. أمسك نفسك، اضبطها عن فضولها، لا تسأل عما لا يعنيك والتزم حدودك،. *وهذه تحتاج (لإحكام النفس)،.* لتصارع رغبةً مزروعة فيك،.
في هذه السورة قال اللّه للمؤمنين،. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا *((عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ))* لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة 105]،. أي لا تتدخل بما لا يخصك انت،. لا تنظر لعيب غيرك،. *اهتم بنفسك،. (وهذا من إحكام النفس)،.*
فحتى لا يقع المؤمنون في مثل ما وقع فيه من قبلهم،. حذرهم الله بأن قصَّ عليهم قصةً عظيمة،. تحذرهم وتنبههم ألا يقعوا بمثله،. ألا وهي قصة ابني آدم،. فالتقي منهم *لم (يحكم نفسه)* بعد أن تقبل الله منه،. فقال،. ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين﴾،. تقبل الله منه،.. فأعجب بنفسه *ولم يحكمها ويحافظ عليها*،.. فقتل أخاه،. ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين﴾،. السورة فيها تنبيه على المؤمن المتقي أن لا يخسر نفسه ولا يغتر بنفسه أنه تقي،. بل فليحافظ على تقواه وإيمانه! *وهذا من الإحكام،.*
في هذه السورة التي امتلئت بالإحكام ومعانيها وصورها،. قالَ اْللّٰه في أولها،. ﴿..إِنَّ اللَّهَ (يَحْكُمُ) مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة 1]،. وقال ابن مريم في آخرها،. ﴿..وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ((فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))﴾ [المائدة 118]،. إن غفرت لهم فهذا منك وحدك، فضل منك ورحمة منك وحدك،. ليس لأنهم أبناء الله وأحباؤه كما زعموا،.
ــــ قالَ اْللّه فيها،. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ ((عَزِيزًا حَكِيمًا))﴾ [النساء 157 ــ 158]،. فالحكيم الذي يتحكم بكل شيء،. لا يحدث أمر إلا بمشيئته،. قالَ اْللّه،. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ [آل عمران 54 ــ 55]،. ثم حين شُبّه لهم، وظنوا أنهم قتلوه!،.
قالَ اْللّٰه فيها [ولاحظ العجب بالنفس، الداعي للتفلت واتباع الهوى]،. ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰۤؤُا۟ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰۤؤُهُ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِير﴾ [المائدة 18]،.
وهذا الأمر الذي قالته اليهود والنصارى عن أنفسهم،. كان دافعاً لهم ليظنوا أنهم مقربون للّٰه،. وأن الله يحبهم، ومهما فعلوا وأفسدوا بعدها، فلن يآخذهم ولن يعذبهم كما قالوا في البقرة،. ﴿وَقَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَةࣰ..﴾ [البقرة 80]،.
فبعث الله لهم عيسى بن مريم،. ليحكموا أنفسهم عن هذا،. فقال الله،. ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ عِیسَىٰ بِٱلۡبَیِّنَاتِ *((قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ))* وَلِأُبَیِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي تَخۡتَلِفُونَ فِیهِ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ﴾ [الزخرف 63]،.
4 ـــــــــ لماذا جاء عيسى بالحكمة؟!،.
قال الله،. ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ عِیسَىٰ بِٱلۡبَیِّنَاتِ *((قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ))* وَلِأُبَیِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي تَخۡتَلِفُونَ فِیهِ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ﴾ [الزخرف 63]،.
عيسى جاء بعد موسى،. وقوم موسى هم الذين اتخذوا العجل في عهده،. اتخذوه وهو معهم،. فحين مات موسى وهارون،. صاروا أبعد عن دينهم، وزاد حبهم للعجل وتعلقهم بالعاجلة،.
والعجل إنما كان يرمز للدنيا وزينتها،.. بدليل،.
أ ــ قالَ اْللّٰه،. ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ ((مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا)) جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [اﻷعراف 148]،. فالعجل نفسه كان من الحلي،. والحلي زينة الذهب والفضة،. قالَ اْللّٰه،. ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا ((حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)) فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ [طه 87]،.
فالعجل كان من الزينة والحليّ! اللذان هما مغريات الدنيا،. قالَ اْللّٰه،. ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا ((الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) لَعِبٌ وَلَهْوٌ ((وَزِينَةٌ)) وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ...﴾ [الحديد 20]،. وهذا التشابه بين العجل والدنيا،. لأن العجل كان رمزاً للدنيا،.
ب ــ ولأن الله لا يجازي الناس إلا بمثل السيئة،. ﴿مَنۡ عَمِلَ سَیِّئَةࣰ فَلَا یُجۡزَىٰۤ إِلَّا مِثۡلَهَا..﴾ [غافر 40]،. وقال،. ﴿جَزَاۤءࣰ وِفَاقًا﴾ [النبأ 26]،. أي أن الجزاء سيكون من جنس العمل،. يوافق السيئة ولا ظلم فيها،. ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَیۡـࣰٔا وَلَكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾ [يونس 44]،.
فكان جزاء الذين اتخذوا العجل [الدنيا]،. أن يفارقوها،. قال الله،. ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ *((یَاقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوۤا۟ إِلَىٰ بَارِئكُمۡ فَٱقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ))* ذَلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ [البقرة 51 - 54]،.
وقال كذلك،. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)) بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))﴾* [البقرة 93 ــ 94]،.
فقتلهم لأنفسهم سيكون بمثابة البرهان على تخليهم من الدنيا وإخلاصهم للآخرة، إن كانوا صادقين في توبتهم لله،.
ج ــ قالَ اْللّٰه،. ﴿إِنَّ الَّذِينَ ((اتَّخَذُوا الْعِجْلَ)) سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ((الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ [اﻷعراف 152]،. جعل الله عليهم الغضب والذلة في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا،. لأن العجل رمز للْحَيَاةِ الدُّنْيَا،. والجزاء من جنس العمل،. وفاقاً،.
د ــ والله يسمي الدنيا اسماً يشبه ما أحبه بني إسرائيل،. قالَ اْللّٰه،. ﴿مَّن كَانَ یُرِیدُ *((ٱلۡعَاجِلَةَ))* عَجَّلۡنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ لِمَن نُّرِیدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصۡلَتهَا مَذۡمُومࣰا مَّدۡحُورࣰا وَمَنۡ أَرَادَ *((ٱلۡـَٔاخِرَةَ))* وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡیَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَئكَ كَانَ سَعۡیُهُم مَّشۡكُورࣰا﴾ [الإسراء 18 - 19]،. وقال،. ﴿كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ *((ٱلۡعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ))﴾* [القيامة 20 - 21]،. وقال كذلك،. ﴿إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ یُحِبُّونَ *((ٱلۡعَاجِلَةَ وَیَذَرُونَ وَرَاۤءَهُمۡ یَوۡمࣰا ثَقِیلࣰا))﴾* [الإنسان 27]،.
كل ذلك الحب الشديد للدنيا كان عند اليهود،. فأرسل الله مع عيسى معه الحكمة،. ليعظهم ويبعدهم عن الدنيا مجدداً، كما وصاهم موسى من قبل،.
وهنا نذكّر أنفسنا بأن عجلنا اليوم أحلى وأسمن وأملأ من عجل بني إسرائيل، فدنيانا فيها من الزخرف والزينة والمال ما يلهينا أكثر عن الآخرة،. وقد تعلقت قلوبنا بالدنيا، فسِرنا على سننهم كما أخبرنا النّبي ﷺ،. ﴿ﻟﺘﺘﺒﻌﻦ ﺳﻨﻦ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻜﻢ ﺷﺒﺮا ﺑﺸﺒﺮ، ﻭﺫﺭاﻋﺎ ﺑﺬﺭاﻉ...﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭﻣﺴﻠﻢ،.
وإن كان الواحد منا يتخيل زمن بني إسرائيل [وكل مافي دنياهم بعض الإبل والخيل والحرث، ولو كثر ذهبهم] هو لا شيء بالمقارنة بزماننا، من الرفاهية وموارد الطاقة والمدنية والحضارة والزخرف والأنوار والسيارات والبيوت والطائرات والانترنت والاجهزة ووو .... إلخ،. فلو كان الله عاب على بني إسرائيل تعلقهم بالدنيا [ودنياهم حافية]،. فكيف بدنيانا نحن الآن [الممتلئة]؟!،. تاللّٰه أنها أعظم فتنة نحن فيها،.
5 ــــــــــ الحكمة عند لقمان،..
قبل البت في "الحكمة" التي عند لقمان،. علينا أن نعرف من هو لقمان؟!،. ثم نربط بينه وبين الحكمة لنعرف لماذا آتاه الله الحكمة من دون كثير من الأنبياء والرسل،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ *((لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ))* نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص 29 ــ 30]
بعد أن أمرنا الله بالتدبر، ذكر بعدها مباشرة داود وسليمان،. وكأنه يُفترض أن يكون لهما النصيب الأكبر من التدبر،. وكأنك لن تفهم قصة داود وسليمان إلا بالتدبر،. وربط الآيات ببعض،.
ــــ لقمان هو داوود، والد سليمان عَلَيْهما اْلصَّلَاْة وَاْلسَّلَاْم،. وذلك لكثرة التشابه بينهما،.
1 ــــــــ الوراثة بين الأب والابن،.
في القُــرآن 4 أنبياء لهم أبناء حضروهم،. إبراهيم وله إسماعيل وإسحاق،.. ويعقوب وله يوسف،.. وزكريا وله يحيى،.. وداود وله سليمان،..
رجل يوصي ابنه بــ ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ *((وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ))* إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان 18 ــ 19]،.
تفهم من هذه الموعظة أن الواعظ ذو منزلة جليلة هو وابنه الذي سيرثه، فيخشى أن يتكبَّر ابنه على الناس من بعده فيصعر خده لهم، ويمشي في الأرض مرحاً مختالاً،. وأن يرىٰ نفسه فوقهم فيظلمهم،. وهذه المنزلة العظيمة، هي منزلة الملوك والأمراء والسلاطين،. ولم يكن من بين الأنبياء ملكٌ أو وخليفة، أو سلطان إلا (داود وابنه سليمان)، الذي ورثه بعده!،. ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ..﴾ [النمل 16]،.
2 ــــــ وعظ لقمان ابنه، فذكر المشي مرتين،. ﴿..وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا..﴾،. وقال،. ﴿..وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ..﴾،.
وقد ذكر الله (المشي مرحاً) كذلك في سورة الإسراء،. وقال بعدها أنها من الحكمة،. ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ((وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا)) إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ ((مِنَ الْحِكْمَةِ)) وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [اﻹسراء 36 - 39]،.
قالَ اْللّٰه في بداية قصة لقمان الذي وعظ ابنه إلا يمشي مرحاً،. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ((الْحِكْمَة))..﴾ [لقمان 12]،.
3 ــــــــ الحكمة،.
قالَ اْللّٰه عن لقمان،. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة..﴾ [لقمان 12]،.
وقال عن داود في أول ذكر له في القُــرآن،. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ((وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)) وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة 251]،.
قالَ اْللّٰه عن داود،. ﴿ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلۡأَیۡدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُ یُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ وَٱلطَّیۡرَ مَحۡشُورَةࣰ كُلࣱّ لَّهُ أَوَّابࣱ *((وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُ وَءَاتَیۡنَاهُ ٱلۡحِكۡمَةَ))* وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ﴾ [ص 17 - 20]،.
ــــ ولقمان كان يعظ ابنه،. ﴿وَإِذْ قَالَ ((لُقْمَانُ لِابْنِهِ)) وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان 13]،.
وفي سورة لقمان آية تتكلم أنه يوم الدين، لن ينفعك أحد من أرحامك وخصص فيها ذكر (الولد والوالد) دون بقية الأرحام،. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان 33]،.
بينما في غيرها، مثلاً،. ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس 34 ــ 37]،. وقالَ اْللّٰه،. ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ/يُفْصَلُ/يُفَصَّلُ/يُفَصِّلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الممتحنة 3]،.
4 ــــــــ الشكر،.
قال سليمان بن داوود،. ﴿..قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ((أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ)) فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل 40]،.
وقال لقمان لابنه،. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ((أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ)) فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان 12]،.
قالَ اْللّٰه لآل داود،. ﴿..((اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)) وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ 13] قال آل داود، وليس آل سليمان، بينما الآيات هنا عن سليمان،.
5 ــــــــ الإنابة،.
في سورة لقمان، قالَ اْللّٰه،. ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ((وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)) ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان 15]
قالَ اْللّٰه عن داود،. ﴿..وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا ((وَأَنَابَ))﴾ [ص 24]،.
كذلك قالَ اْللّٰه عن ابن داود،. ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ ((أَنَابَ))﴾ [ص 34]،.
6 ــــــــ الكلام والصوت،.
داوود ﷺ كان محارباً،. واسمه داود، من ((الدَّوِيّ)) أي الصوت العالي الجهير،.
عن طلحة بن عبيد الله قال ﴿جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، من أهل نجد، ثائر الرأس، ((يسمع دوي صوته))، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال له رسول الله ﷺ : خمس صلوات في اليوم والليلة،......﴾ أخرجه مالك، وأحمد، والدارمي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والبزار، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبان.
والصوت العالي في الحرب يعني الكثير!،.
رُويَ عن رسُول اللّه ﷺ أنه قال عن أبي طلحة -رَضِيَ اْللّهُ عَنْهُ- ﴿لَصَوْتُ أبي طلحةَ في الجَيْشِ خيرٌ من فِئَةٍ﴾ السلسلة الصحيحة - 1916 - إسناده صحيح على شرط مسلم، وفي رواية، ﴿لَصوْتُ أبي طلحةَ في الجيشِ خيرٌ مِنْ ألفِ رجلٍ﴾ صحيح الجامع - 5081 - صحيح.
ورُويَ عن النّبي ﷺ بسند فيه مقال، أنه قال لأبي موسى الأشعري حين سمعه يتغنى بالقرآن،. ﴿لو رأيتني وأنا أستمعُ لقراءتِكَ البارحةَ! لقد أُوتيتَ ((مزمارًا من مزاميرِ آلِ داودَ))﴾ صحيح مسلم - 793.
فداوود عَلَيْه اْلصَّلَاْة وَاْلسَّلَاْم له علاقة بالصوت!،.
وفي قصة لقمان،. تجده يعظ ابنه فيما يخص الصوت!،. ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ((وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)) إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان 19]،.
وداود وسليمان،. يفهمان منطق الطير والنملة،.
7 ــــــــ المحاسبة والتخويف بالله عند الحكم بين الناس،.
قال لقمان لابنه،. ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان 16]،.
وفي سورة ((الأنبياء))،. ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [اﻷنبياء 47]،.
وجاء في سورة الأنبياء ذكر داود وسليمان وهما يحكمان بين الناس،. ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [اﻷنبياء 78]،.
وداود آتاه الله فصل الخطاب،. فكان يخوف ابنه باللّٰه حتى يحكم بين الناس بالحق،.
8 ــــــــ العلم،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ *((وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ))* وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة 251]،.
وقال عنهما،. ﴿وَلَقَدۡ *((ءَاتَیۡنَا دَاوُودَ وَسُلَیۡمَانَ عِلۡمࣰا))* وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [النمل 15]،.
وفي قصة ملكة سبأ، قال سليمان،. *﴿..((وَأُوتِينَا الْعِلْمَ))* مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ [النمل 42]،.
وقال قبلها،. *﴿..((يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ))* وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل 16]،.
وفي آخر سورة لقمان،. ذكر الله العلوم الخمسة!،. ﴿إِنَّ اللَّهَ *((عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))* وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان 34]،. وقالَ نَبِيّ اْللّٰه ﷺ،. ﴿ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ اﻟﻐﻴﺐ ﺧﻤﺲ، ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ: ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﺗﻐﻴﺾ اﻷﺭﺣﺎﻡ ﺃﺣﺪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻏﺪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺘﻰ ﻳﺄﺗﻲ اﻟﻤﻄﺮ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﺗﻌﻠﻢ ﻧﻔﺲ ﺑﺄﻱ ﺃﺭﺽ ﺗﻤﻮﺕ، ﻭﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺘﻰ ﺗﻘﻮﻡ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﺃﺣﺪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ، ﻭﺃﺣﻤﺪ، ﻭﻋﺒﺪ ﺑﻦ ﺣﻤﻴﺪ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭاﻟﻨﺴﺎﺋﻲ، ﻭاﺑﻦ ﺣﺒﺎﻥ.
9 ــــ متشابهات،.
ــ في سورة لقمان،. ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ((مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [لقمان 25 ــ 26]،.
وفي سورة النمل التي فيها قصة سليمان،. ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ..﴾ [النمل 59 ــ 60]،.
ــ في سورة لقمان،. ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾ [لقمان 27]،.
في سورة الكهف التي فيها ذو القرنين (وهو سليمان)،. ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف 109]،.
فنقول بعد هذا التشابه واللّٰه أعلم، أن لقمان هو نبي الله داود أبو سليمان، لما وجدناه من التشابه بينهما،. وكلاهما أوتي الحكمة،. فالحكمة واحدة لشخص واحد،.
ــــــ داوود ملك،. يعني صاحب مال وسلطة وحكم وخلافة،. وقد ورثه سليمان،. يعني ورث منه مالاً كثيراً،. وهذا باعث على تعلق قلب سليمان بالدنيا،. خاصة أنه مالٌ مجاني مورَث بلا تعب،. أتاك جاهزاً،. وهذا النوع من المال،. يأكله الإنسان أكلا لماً،. بخلاف المال الذي أتى بجهد وعمل،.
المال المجني بالتعب والجهد والجمع تحبه،،.. أما الميراث،. قالَ اْللّٰه،. ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكۡرِمُونَ ٱلۡیَتِیمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ *((وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكۡلࣰا لَّمࣰّا وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبࣰّا جَمࣰّا))﴾* [الفجر 17 - 20]،.
التراث،. هو الورث الذي ترثه من مال أبيك،. هذا المال أتاك بلا جهد وتعب،. فيرخص في عينك (فتصرفه بلا وازع ولا تفكير عميق)،. لهذا قالَ اْللّٰه عن الورث (تأكلون)،.
سليمان الآن سيرث داوود،. وهذا باعثٌ ودافعٌ لسليمان أن يأكل ويلعب بهذا الملك [المجاني] فيتفلّت،. فكان بحاجة للوعظ حتى يحكم نفسه فلا يزيغ ولا يفرط،.
قال عن داود في أول ذكرٍ له في القرآن،. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ((وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)) وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة 251]،.
قالَ اْللّٰه عن لقمان،. ﴿وَلَقَدْ *((آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة))..﴾* [لقمان 12]،. وقالَ اْللّٰه عن سليمان بن داود،. ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ((وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ)) وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص 20]،.
فكان الوعظ من لقمان [الحكيم] لسليمان، ليحميه من التعلق بالملك والعز والترف والرفاهية،. ويصرف عنه شر الدنيا،. ليضبط نفسه عن شهواتها،. فدوافع الفتنة لديه كثيرة جداً،. ملكٌ عظيم،. لن يملك أحدٌ كملكه،.
وقد سلّم الله سليمان من الدنيا،. وانقذه منها،. ولهذا سماه سليمان،.
ــــــــــــ معنى اسم سليمان،.. وعلاقته بالــ "حكمة"،.
هنا العجب،. لأن *هذا الاسم لا ينبغي إلا لنبيٍ أوتي من الدنيا مالم يُؤتَ أحدٌ قبله ولا بعده مثله،.* لماذا؟،.
هذا النبي سأل الله ملكاً عظيماً،. ﴿قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكࣰا لَّا یَنۢبَغِي لِأَحَدࣲ مِّنۢ بَعۡدِي إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾ [ص 35]،. هذا المُلك فتنة عظيمة، فتنة شديدة تصرف القلب عن الآخرة،. ولكن الذي جعله يطلب هذا [الله]، هو نفسه سماه من قبل بسليمان،. حتى يصرف عنه فتنة الملك والدنيا في أشد ما تكون على عبدٍ أوتي من كل شيءٍ في الدنيا،.
في اسمه معاني عظيمة تدل على خلاصه من الدنيا،. اسم سُليمان في آخره ألف ونون، هذا للامتلاء، كشبع شبعان، جوع جوعان، نعس نعسان،. أما سُلَيْم فهي تصغيرٌ لاسم سَلِيْم،. كما أن حُميد تصغيرٌ لحَمِيْد،. فأصل الاسم من (سَليم) وهذا الاسم يقال للذي سَلِم من الشر،. وسليمان سَلِم قلبه من فتن الدنيا،. خرج منها سليماً خالصاً مخلصاً، أخلصه الله للآخرة،. قالَ اْللّٰه بعد أن ذكر قصة ملك سليمان،. ﴿إِنَّاۤ أَخۡلَصۡنَاهُم بِخَالِصَةࣲ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَیۡنَ ٱلۡأَخۡیَارِ﴾ [ص 46 - 47]،.
ــــ لماذا ربطت السلامة بفتن الدنيا حصراً؟!،.
قالَ اْللّٰه على لسان إبراهيم،. ﴿وَلَا تُخۡزِنِي یَوۡمَ یُبۡعَثُونَ *((یَوۡمَ لَا یَنفَعُ مَالࣱ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِیمࣲ))﴾* [الشعراء 87 - 89]،.
فسلامة القلب يوم القيامة، تكون بالتخلص من فتن الدنيا،. ((المال والبنون))،. هذا القول قاله إبراهيم البريء،. وفي إبراهيم ذاته عبرة وعظة في التخلص من البنون،. فهو الذي أمره الله بترك ابنه في واد غير ذي زرع، ثم أمر بذبحه،.. ذلك بعد أن خرج من قومه وحيداً ودعى الله أن يهبه ابناً،. قالَ اْللّٰه عنه شهادةً له،. ﴿إِذۡ جَاۤءَ رَبَّهُ بِقَلۡبࣲ سَلِیمٍ﴾ [الصافات 84]،. ثم ذكر تفصيل هذه السلامة،. ﴿قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ قَالُوا۟ ٱبۡنُوا۟ لَهُ بُنۡیَانࣰا فَأَلۡقُوهُ فِي ٱلۡجَحِیمِ فَأَرَادُوا۟ بِهِ كَیۡدࣰا فَجَعَلۡنَاهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِینَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّي سَیَهۡدِینِ رَبِّ هَبۡ لي مِنَ ٱلصَّالِحِینَ فَبَشَّرۡنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِیمࣲ﴾ [الصافات 95 - 101]،. أخرجه قومه فبقي وحيداً ليس له غير ربه،. فذهب إليه ودعاه أن يهبه غلاماً يكون معه،. فلما وهبه أمره بتركه، ثم بذبحه،. هو الذي أمره الله بترك ابنه في واد غير ذي زرع،. قالَ،. ﴿رَّبَّنَاۤ إِنِّي أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتي بِوَادٍ غَیۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ...﴾ [إبراهيم 37]،. وفي الحديث *﴿..ﺣﺘﻰ ﻗﺪﻡ ﻣﻜﺔ، ﻓﻮﺿﻌﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺩﻭﺣﺔ، ﺛﻢ ﺭﺟﻊ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻠﻪ، ﻓﺎﺗﺒﻌﺘﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﺣﺘﻰ ﻟﻤﺎ ﺑﻠﻐﻮا ﻛﺪاء، ﻧﺎﺩﺗﻪ ﻣﻦ ﻭﺭاﺋﻪ: ﻳﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﺇﻟﻰ ﻣﻦ ﺗﺘﺮﻛﻨﺎ؟ ﻗﺎﻝ: ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻟﺖ: ﺭﺿﻴﺖ ﺑﺎﻟﻠﻪ*،..... الحديث﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭاﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، ﻭاﻟﻨﺴﺎﺋﻲ، ﻭاﻟﺒﻴﻬﻘﻲ.
ثم أمره الله بالتخلص من ابنه،. ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡي قَالَ یَابُنَي إِنِّي أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّي أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ یَا أَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِینَ فَلَمَّاۤ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُ لِلۡجَبِینِ وَنَادَیۡنَاهُ أَن یَا إِبۡرَاهِیمُ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡیَاۤ إِنَّا كَذَلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِینَ ((إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُا۟ ٱلۡمُبِینُ))﴾ [الصافات 102 - 107]،.
فنجى إبراهيم من أعظم بلاءٍ قد يصاب به إنسان،. هذا النبي،. قالَ اْللّٰه عنه في بداية هذه القصة،. ﴿وَإِنَّ مِن شِیعَتِهِ لَإِبۡرَاهِیمَ *((إِذۡ جَاۤءَ رَبَّهُ بِقَلۡبࣲ سَلِیمٍ))﴾* [الصافات 83 - 84]،. قد سلم وبرء من فتنة الدنيا كلها [ولهذا إسمه إبراهيم]،. لم يمتلك مالاً ونعيماً،. وصَدَق الرؤيا بابنه،. فقالَ اْللّٰه عن هذا البلاء،. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُا۟ ٱلۡمُبِینُ وَفَدَیۡنَاهُ بِذِبۡحٍ عَظِیمࣲ ((وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِي ٱلۡآخِرِینَ سَلَامٌ عَلَىٰۤ إِبۡرَاهِیمَ))﴾ [الصافات 106 - 109]،.
هذه السلامة التي خرج بها من الدنيا، ولقي بها ربه،. كانت بسبب تخلصه من فتنة وبلاء الدنيا،. [المال والبنون]،. فما ظنك بمن سماه الله سليمان؟!،.
سليمان ملك الدنيا،. فكان أولى الناس من الوقوع في بلاءها، والغرق في فتنها،. لأن الله مَلَّكه ملكاً عظيماً،. فكانت فتنته أعظم وأكبر من كل ملوك الأرض الذين ملكوا أجزاء منها،. سليمان آتاه الله ملكاً، فكان يبنغي معه الفساد والظلم، والاستغلال والغفلة، وصرف القلب عن الذكر والآخرة،. فلا يستطيع الانسان أن ينجوا بمثل هذا الوضع،. إلا أن يتدخل الله نفسه فيعينه على النجاة ليسلم منها،. ولولا أن الله سلّم سليمان من الفتن لوقع فيها،. ولكن الله نجاه منها،. وسليمان كان يعلم أنه مبتلى،. وأن عليه أن يرجع لربه بقلب سليم،. لا بماله ولا بنفسه،. إنما بقلب (سليمٍ) من فتن الدنيا،. فالدنيا بلاء على الفقير، وتشتد بلاءً على الغني،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِ ((لَبَغَوۡا۟ فِي ٱلۡأَرۡضِ)) وَلَكِن یُنَزِّلُ بِقَدَرࣲ مَّا یَشَاۤءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِیرُۢ بَصِیرࣱ﴾ [الشورى 27]،. فكيف بمن كان ملكاً؟ سيشتد عليه البلاء،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَائفَ ٱلۡأَرۡضِ ((وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَاتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِي مَاۤ ءَاتَاكُمۡ)) إِنَّ رَبَّكَ سَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورࣱ رَّحِیمُ﴾ [الأنعام 165]،. وقال،. ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءࣲ قَدِیرٌ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ ((لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا)) وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ﴾ [الملك 1 - 2]،. وقال،. ﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤئقَةُ ٱلۡمَوۡتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَامَةِ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَ ((وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَاعُ ٱلۡغُرُورِ لَتُبۡلَوُنَّ فِي أَمۡوَالِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ))..﴾ [آل عمران 185 - 186]،.
ــ هل علم سليمان بأن بلاؤه شديد؟!،.
قالَ اْللّٰه عن سليمان،. ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوودَ وَسُلَیۡمَانَ عِلۡمࣰا وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ((ٱلَّذِي فَضَّلَنَا)) عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَوَرِثَ سُلَیۡمَانُ دَاوودَ ((وَقَالَ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّیۡرِ وَأُوتِینَا مِن كُلِّ شَيءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِینُ))﴾ [النمل 15 - 16]،. هذا الفضل المبين [زيادة في كل شيء]، بلاءٌ مبين،. [وهو كما كان عند إبراهيم في البنين]،. قالَ اْللّٰه،. ﴿وَنَادَیۡنَاهُ أَن یَا إِبۡرَاهِیمُ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡیَاۤ إِنَّا كَذَلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِینَ ((إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُا۟ ٱلۡمُبِینُ))﴾ [الصافات 104 - 106]،.
فالفضل المبين بلاءٌ مبين، وهذا يلزمه خروج بسلامة قلب من هذا البلاء،. وقد عرف سليمان هذا فقال،. ﴿قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلۡمࣱ مِّنَ ٱلۡكِتَابِ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِ قَبۡلَ أَن یَرۡتَدَّ إِلَیۡكَ طَرۡفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُ ((قَالَ هَذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِیَبۡلُوَنِي ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ)) وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّي غَنِيٌ كَرِیمࣱ﴾ [النمل 40]،.
عرف سليمان أن هذا الفضل المبين إنما هو بلاء له،. فترك الدنيا وكان أواباً لربه ولم يغتر بالدنيا ولم تصرفه عن ذكر الله،. وشهد الله له فقالَ،. ﴿وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَیۡمَانَ ((نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذۡ عُرِضَ عَلَیۡهِ بِٱلۡعَشِي ٱلصَّافِنَاتُ ٱلۡجِیَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَیۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي)) حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَیَّ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ ((وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَیۡمَانَ وَأَلۡقَیۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِیِّهِ جَسَدࣰا ثُمَّ أَنَابَ)) قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكࣰا لَّا یَنۢبَغِي لِأَحَدࣲ مِّنۢ بَعۡدِي إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّیحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِ رُخَاۤءً حَیۡثُ أَصَابَ وَٱلشَّیَاطِینَ كُلَّ بَنَّاۤءࣲ وَغَوَّاصࣲ وَءَاخَرِینَ مُقَرَّنِینَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ هَذَا عَطَاۤؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ *((وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ¹))﴾* [ص 30 - 40]،.
رغم تعدد الفتن والبلايا، وقوة الملك والمال والإمكانيات،. إلا أن سليمان كان ينيب لربه، يرجع له ليهديه، يطلب منه أن يوزعه على الشكر والعمل الصالح،. قالَ اْللّٰه عن سليمان،. ﴿(وَحُشِرَ لِسُلَیۡمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّیۡرِ فَهُمۡ یُوزَعُونَ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَوۡا۟ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةࣱ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُوا۟ مَسَاكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكࣰا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ *(((رَبِّ أَوۡزِعۡنِي أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِي أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَالِحࣰا تَرۡضَاهُ)))* وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِینَ﴾ [النمل 17 ــ 19]،.
سأل الله أن يوزعه، والإيزاع تعني الإلزام والإجبار،.. فهذه ليست فتنة عادية كالفتن التي تحصل لنا،. إنما هو ملك عظيم جداً جداً،. فيلزمه إلزام وإيزاع من الله حتى يخرج منها سليماً، ويأت الله بقلب سليم من التعلق بأمور الدنيا [الملك]،.
¹ كلمة ((حسن مآب)) لم تأت في القرآن كله، إلا في مقابل متاع الدنيا، لتخرج منها سليماً،. أولها كانت في قول الله،. ﴿زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَاطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَامِ وَٱلۡحَرۡثِ *((ذَلِكَ مَتَاعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ))﴾* [آل عمران 14]،.
قالَ اْللّٰه،. ﴿ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُ *((وَفَرِحُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا فِي ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا مَتَاعࣱ))* وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِي إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَطۡمَئنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ *((وَحُسۡنُ مَـَٔابࣲ))﴾* [الرعد 26 - 29]
وعن داوود ((الملك))،. ﴿قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡخُلَطَاۤءِ لَیَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِیلࣱ مَّا هُمۡ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعࣰا وَأَنَابَ فَغَفَرۡنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ ((وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ))﴾ [ص 24 - 25]،.
وقال بعد كلام عن سليمان، وذكر بعض الأنبياء الذي صبروا على مصائب الدنيا،. ﴿وَٱذۡكُرۡ عِبَادَنَاۤ إِبۡرَاهِیمَ وَإِسۡحَاقَ وَیَعۡقُوبَ أُو۟لِي ٱلۡأَیۡدِي وَٱلۡأَبۡصَارِ إِنَّاۤ أَخۡلَصۡناهُم ((بِخَالِصَةࣲ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ)) وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَیۡنَ ٱلۡأَخۡیَارِ وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَاعِیلَ وَٱلۡیَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِ وَكُلࣱّ مِّنَ ٱلۡأَخۡیَارِ هَذَا ذِكۡرࣱ ((وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِینَ لَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ))﴾ [ص 45 - 49]،.
حتى حين سعى لأن ينجب أولاداً يقاتلون في سبيل الله،. لم يرزق سوى نصف إنسان،. ألقي على كرسيه،. فعرف أنه البلاء،. فرجع مجدداً لربه،. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَیۡمَانَ وَأَلۡقَیۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِیِّهِ جَسَدࣰا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص 34]،.
خرج من الدنيا سليم القلب، خالصاً من فتنها،. إنه سليمان،. سليم القلب،. جاء ربه بقلب سليم،. قالَ نَبِيّ اْللّه ﷺ،. ﴿ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ((ﺻﻮﺭﻛﻢ ﻭﺃﻣﻮاﻟﻜﻢ ﻭﻟﻜﻦ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ)) ﻭﺃﻋﻤﺎﻟﻜﻢ﴾ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺃﺣﻤﺪ، ﻭﻣﺴﻠﻢ، ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﺔ.
سليمان أتى الله بقلب سليم،. نجى من بلاء الدنيا وفتنتها [في أوجها، فقد كان ملكاً]،. اسمه سليمان،.
كل ذلك كان من وعظ أبيه له،. حين أوتي الحكمة، فوعظه، فحكم سليمان نفسه،. ونجاه الله من الدنيا،.
ــــــــــــــــ الخاتمة،.
الحكمة ليس لها علاقة بالتشريع والسنن،. الحكمة ليس لها علاقة بآيات اللّٰه وكتبه،. الحكمة وعظ لضبط النفس عن الشهوات،. حتى زا تتفلت وتطيش، وتتعلق القلوب بالدنيا والمال،.
رَبَنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا،.. ﴿ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾،.
بكيبورد، محسن الغيثي،.